كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 65 "
كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك . ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا . فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان ، تحصناً من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع إلى علم ذلك . ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ . ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده . ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء ( ، وقوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وكان سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيماً . ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي ، أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان ، وإفراده بالعبادة فقال : ) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ( ، وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار ، وهو قول الحسن . وقيل : كانوا زنادقة .
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان ، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها . وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين ، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه ، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها . وفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان ، وإن كانت المسافة بينهما قريبة ، كما خفي ملك يوسف على يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله تعالى . قال الزمخشري : ومن نوكي القصاص من يقف على قوله : ) وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( ، وجدتها يريد أمر عظيم ، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله . انتهى . وقال أيضاً فإن قلت : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها . ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصاً في زمان بني سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . انتهى .
وأسند التزيين إلى الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى . ) فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ( ، أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة . ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، أي إلى الحق . وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، والزهري ، والسلمي ، والحسن ، وحميد ، والكسائي : ألا ، بتخفيف لام الألف ، فعلى هذا له أن يقف على : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( ، ويبتدىء على : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). قال الزمخشري : وإن شاء وقف على ألا يا ، ثم ابتدأ اسجدوا ، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : ) فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( بقوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ). وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله ، وهي قراءة الأعمش : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ، على الخطاب . وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السمائ والأرض ويعلم سركم وما تعلنون ، انتهى . وقال بن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي حرف عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ، بالتاء أيضاً ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها واضح . وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : ) أَلاَّ يَسْجُدُواْ ( في موضع نصب ، على أن يكون بدلاً من قوله : ) أَعْمَالَهُمْ ( ، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا .

الصفحة 65