" صفحة رقم 75 "
عرشها ، وأجابت بما أجابت به مقاماً ، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : ) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ( ، نحو أن يقولوا عند قولها : ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، قد أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر .
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين الإسلام ، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة . ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها ) كَأَنَّهُ هُوَ ( ، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام . ثم قال الله تعالى : ) وَصَدَّهَا ( قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل . انتهى . أما قوله : ويجوز أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجوار . قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش . وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك . والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله : ) مَا كَانَت تَّعْبُدُ ( ، وكونه الله أو سليمان ، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر ، قاله الطبري ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :
تمرون الديار ولم تعوجوا
أي عن الديار ، وليس من مواضع حذف حرف الجر . وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه ، الظاهر أنه الإسلام . وقال الرماني : التقدير التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث . والظاهر أن قوله : ) وَصَدَّهَا ( معطوف على قوله : ) وَأُوتِينَا ( ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته . وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : ) أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ). والواو في صدها للحال ، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة . وقرأ الجمهور : إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد .
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً ، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنياً كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي . فلما وصلته بلقيس ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِى ( إلى النبي عليه السلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن . فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان : ) إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ ( ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم . وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في وصدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس . قال الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وثباتاً على الدين . انتهى . والصرح : كل بناء عال ، ومنه : ) ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ ( ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ . وقال مجاهد : الصرح هنا : البركة . وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها . وقيل : الصرح هنا : القصر من