كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 7)

" صفحة رقم 93 "
نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة ، أو من فريق من الناس ، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن .
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه ، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم ، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله تعالى ، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية . وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت ، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضاً على النبوة ، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ( ، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ، وعلل جعل الليل بقوله : ) لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ( ، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم . قال بعض الرجاز : النوم راحة القوى الحسية
من حركات والقوى النفسية
ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى بقوله : ) مُبْصِراً ( ، قيداً في جعل النهار ، لا علة للجعل . فقال الزمخشري : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصراً : لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب . انتهى . والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله ، وحذف من آخره ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتنصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : ) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ( ؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلماً ، والتصرف علة لجعل النهار مبصراً وتقدم لنا : الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعاً في البقرة في قوله : ) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ ).
) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( : أي في هذا الجعل ، ( لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم . ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ( : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي نفخة الفزع . وروي أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور . وقيل : نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : ) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ( ، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله . وقال صاحب الغنيان : ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ( للبعث من القبور والحشر ، وعبر هنا بالماضي في قوله : ) ففزغ ( ، وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه ، وأنه كائن لا محالة ، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل ، كقوله تعالى : ) الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ( ، بعد قوله : ) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
) إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( : أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه . فقال مقاتل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت عليهم السلام . وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم ، فهم حريون أن لا ينالهم هذا . وقال الضحاك : الحور العين ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى ، لأنه صعق مرة . وقال أبو هريرة : هم الشهداء ، ورواه أبو هريرة حديثاً ، وهو : ( أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون ) ، وهو قول ابن جبير ، قال : هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش . وقيل : هم المؤمنون لقوله : ) وَهُمْ مّن فَزَعٍ

الصفحة 93