كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 7)

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
يَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ وَالشَّهَادَاتِ. وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مِثْلِ قَرَابَاتِكُمْ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ «١». (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)
عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا عَهِدَهُ اللَّهُ إِلَى عباده. ومحتمل أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ مَا انْعَقَدَ بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ. وَأُضِيفَ ذَلِكَ الْعَهْدُ إِلَى اللَّهِ مِنْ حيث أمر بحفظه والوفاء بِهِ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
تَتَّعِظُونَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ عَطْفَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى وَأَمَرَ حَذَّرَ هُنَا عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِ، فَأَمَرَ فِيهَا بِاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ." وَأَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ وَاتْلُ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي. عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفْضًا، أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي. وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي، كَمَا قَالَ:" وَأَنَّ الْمَساجِدَ «٢» لِلَّهِ" وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَإِنَّ هَذَا" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ «٣» صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ" وَأَنْ هَذَا" بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُخَفَّفَةُ مِثْلُ الْمُشَدَّدَةِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ وَأَنَّهُ هَذَا. فَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ «٤» ". وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ." مُسْتَقِيمًا" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ الَّذِي طَرَقَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَعَهُ وَنِهَايَتُهُ الْجَنَّةُ. وَتَشَعَّبَتْ مِنْهُ طُرُقٌ فَمَنْ سَلَكَ الْجَادَّةَ نَجَا، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ تَمِيلُ. رَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن زيد حدثنا عاصم بن بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ (هذه سبل على كل سبيل
---------------
(١). راجع ج ٥ ص ٤١٠.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٩. [ ..... ]
(٣). من ب ج ز ك.
(٤). راجع ج ٩ ص ٢٥٩.

الصفحة 137