كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 7)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ تَفَرَّقُوا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ إِلَى الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ (دِيناً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، عَنْ قُطْرُبٍ. وَقِيلَ: نُصِبَ بِ" هَدانِي" عَنِ الْأَخْفَشِ. (قَالَ «١») غَيْرُهُ: انْتُصِبَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى هَدَانِي عَرَّفَنِي دِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الصِّرَاطِ، أَيْ هَدَانِي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دِينًا. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اتَّبِعُوا دِينًا، وَاعْرَفُوا دِينًا. (قِيَمًا) قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ «٢» بِكَسْرِ الْقَافِ وَالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، مَصْدَرٌ كَالشِّبَعِ فَوُصِفَ بِهِ. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَشَدِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَأَصْلُ الْيَاءِ الْوَاوُ" قَيُّومٌ" ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ كَمَيِّتٍ. وَمَعْنَاهُ دِينًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بَدَلَ (حَنِيفاً) قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ نَصْبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) قَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ لَفْظِ الصَّلَاةِ «٣». وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ. وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: ذَبْحِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نُسُكِي دِينِيٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عِبَادَتِي، وَمِنْهُ النَّاسِكُ الَّذِي يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: النُّسُكُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعُ أَعْمَالِ (الْبِرِّ «٤») وَالطَّاعَاتِ، مِنْ قَوْلِكَ نَسَكَ فُلَانٌ فهو ناسك، إذا تعبد. (وَمَحْيايَ) شأي مَا أَعْمَلُهُ فِي حَيَاتِي (وَمَماتِي) أَيْ مَا أُوصِي بِهِ بَعْدَ وَفَاتِي. لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَيْ أُفْرِدُهُ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَيْهِ. وَقِيلَ:" وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ" أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" نُسْكِي" بِإِسْكَانِ السِّينِ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ" وَمَحْيَايْ" بِسُكُونِ الْيَاءِ فِي الْإِدْرَاجِ. وَالْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا، لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ سَاكِنَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا يُونُسُ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ قَبْلَهُ أَلِفًا، وَالْأَلِفُ الْمَدَّةُ الَّتِي فِيهَا تَقُومُ مَقَامَ الْحَرَكَةِ. وَأَجَازَ يُونُسُ اضْرِبَانِ زَيْدًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ هَذَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وليس في الثاني
---------------
(١). من ك.
(٢). في ك: والكسائي. لكن في البحر وقرا باقى السبعة: قيما كسيد.
(٣). راجع ج ١ ص ١٦٨.
(٤). من ك.
الصفحة 152