كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 7)

يُغْزَ غَزَا، وَفِي غَزْوِهِ الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ فِي الْجِهَادِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ «١» " وَالصَّحِيحُ الْعُمُومُ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ. الثَّانِيَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ:" أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ «٢». وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْفَرْضَ أَوِ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إِذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ، لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُصَلِّي فَأَبْصَرَ غُلَامًا يُرِيدُ أَنْ يَسْقُطَ فِي، بِئْرٍ فَصَاحَ بِهِ وَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَانْتَهَرَهُ لَمْ يكن بذلك بأس. والله أعلم. الثالثة- قوله تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي النَّصَّ مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ فَيَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَلَا يَكْتَسِبُهُ إذا لَمْ يُقَدِرْهُ عَلَيْهِ بَلْ أَقْدَرَهُ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ. وَهَكَذَا الْمُؤْمِنُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْرِ. فَبَانَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِجَمِيعِ اكْتِسَابِ «٣» الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ". وَكَانَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَدْلًا فِيمَنْ أَضَلَّهُ وَخَذَلَهُ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ فَتَزُولَ صِفَةُ الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا مَا وَجَبَ لَهُمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَكْفُرَ أَيْضًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيْ بِمَشِيئَتِهِ. وَالْقَلْبُ مَوْضِعُ الْفِكْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٤» " بَيَانُهُ. وَهُوَ بِيَدِ اللَّهِ، مَتَى شَاءَ حَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ بِمَرَضٍ أَوْ آفَةٍ كَيْلَا يَعْقِلَ. أَيْ بَادِرُوا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ قَبْلَ أَلَّا تَتَمَكَّنُوا مِنْهَا بِزَوَالِ الْعَقْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى يحول بين المرء
---------------
(١). راجع ج ٤ ص ٢٦٨. [ ..... ]
(٢). راجع ج ١ ص ١٠٨.
(٣). أي أفعالهم إذ هي مخلوقة له سبحانه والاكتساب للعبد.
(٤). راجع ج ١ ص ١٨٧.

الصفحة 390