كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 7)

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي شَمَّاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ يَبْكِي طَوِيلًا. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ. فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذْلَ الْمَغْفِرَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إِلَى قَبُولِهِمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ سَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَجَاءَ عَابِدًا فَسَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَكَ فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِ الْعَابِدِ: لَا تَوْبَةَ لك، فلما علم أنه قد أيئسه قَتَلَهُ، فِعْلُ الْآيِسِ مِنَ الرَّحْمَةِ. فَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ للخليفة، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَيَقُولُ: لَا تَوْبَةَ، تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا. فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: لَكَ تَوْبَةٌ، تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ: فَلَا طَلَاقَ لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ. فَأَمَّا مَنِ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ. وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ، أَوِ اغتصب مسلمة سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَعْنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، مِنْ مَالٍ أو دم أو شي. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ"، وَقَوْلُهُ: (الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ)، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْمَعْنَى مِنَ التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ. قُلْتُ: أَمَّا الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي إِسْقَاطِ مَا فَعَلَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ سَرَقَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إِذَا قَذَفَ

الصفحة 402