كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 7)

[سورة الأنعام (٦): الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أَيْ شَدَائِدِهِمَا، يُقَالُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا كَانَ شَدِيدًا، فَإِنْ عَظَّمَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
وَجَمَعَ" الظُّلُمَاتِ" عَلَى أَنَّهُ يَعْنِي ظُلْمَةَ الْبَرِّ وَظُلْمَةَ الْبَحْرِ وَظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَظُلْمَةَ الْغَيْمِ، أَيْ إِذَا أَخْطَأْتُمُ الطَّرِيقَ وَخِفْتُمُ الْهَلَاكَ دعوتموه (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا «١» مِنْ هذِهِ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ مِنَ الطَّائِعِينَ. فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ:" ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ". وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" وَخِيفَةً" مِنَ الْخَوْفِ، و (قرأ) «٢» أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ" خِفْيَةً" بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، لُغَتَانِ. وَزَادَ الْفَرَّاءُ خُفْوَةً وَخِفْوَةً. قَالَ: وَنَظِيرُهُ حُبْيَةٌ وَحِبْيَةٌ وَحُبْوَةٌ وَحِبْوَةٌ. وَقِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ بَعِيدَةٌ، لِأَنَّ مَعْنَى" تَضَرُّعاً" أَنْ تُظْهِرُوا التذلل و" خُفْيَةً" أَنْ تُبْطِنُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" لَئِنْ أَنْجَانَا" وَاتِّسَاقُ الْمَعْنَى بِالتَّاءِ، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" يُنَجِّيكُمْ" بِالتَّشْدِيدِ، الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ نَجَا وَأَنْجَيْتُهُ وَنَجَّيْتُهُ. وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ. وَالْكَرْبُ: الْغَمُّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ مَكْرُوبٌ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَمَكْرُوبٌ كَشَفْتِ الْكَرْبُ عَنْهُ ... بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي
وَالْكُرْبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ ذلك. قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ" ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ". لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَجَبَ الْإِخْلَاصُ، وهم قد جعلوا
---------------
(١). قراءة نافع.
(٢). من ك.

الصفحة 8