كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 7)

بِذُنُوبِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ رَادِعًا مَنْ عَقَلَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَذَكَرَ مَا شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْقُرْآنِ النَّاسِخِ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَكُلِّ كِتَابٍ إِلَهِيٍّ، وَأَنَّهُ يَهْدِي لِلطَّرِيقَةِ أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَقَالَ الضحاك والكلبي والفراء لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هِيَ شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْأَوَامِرِ والنواهي وأَقْوَمُ هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ إِذْ قُدِّرَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ أَقْوَمُ مِمَّا عَدَاهَا أَوْ مِنْ كُلِّ حَالٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ أَقْوَمُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا التَّفْضِيلُ إِذْ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُرْشِدُ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَطَرِيقَةٍ غَيْرِهَا، وَفُضِّلَتْ هَذِهِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ قَيِّمَةٌ أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ كَمَا قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» وفِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ «2» أَيْ مُسْتَقِيمَةُ الطَّرِيقَةِ، قَائِمَةٌ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وقال الزمخشري: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لِلْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ وَأَشَدُّهَا أَوْ لِلْمِلَّةِ أَوْ لِلطَّرِيقَةِ، وَأَيْنَمَا قَدَّرْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَ الْإِثْبَاتِ ذَوْقَ الْبَلَاغَةِ الَّذِي تَجِدُهُ مَعَ الْحَذْفِ لِمَا فِي إِبْهَامِ الْمَوْصُوفِ لِحَذْفِهِ مِنْ فَخَامَةٍ تُفْقَدُ مَعَ إِيضَاحِهِ انْتَهَى.
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قَيْدٌ فِي الْإِيمَانِ الْكَامِلِ إِذِ الْعَمَلُ هُوَ كَمَالُ الْإِيمَانِ، نَبَّهَ عَلَى الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ لِيَتَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُفَرِّطُ فِي عَمَلِهِ لَهُ بِإِيمَانِهِ حَظٌّ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ وَالْكُفَّارَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَقَةَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَإِمَّا مُشْرِكٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ هَنَاتٌ وَسَقَطَاتٌ بَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ.
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً بُشِّرُوا بِفَوْزِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَبِكَيْنُونَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، إِذْ فِي عِلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَتَبْشِيرِهِمْ بِهِ مَسَرَّةٌ لَهُمْ، فَهُمَا بِشَارَتَانِ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَيُخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْبِشَارَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ لَا يُعَدُّ لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ شَرْطًا فِي نَجَاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ بَشَّرَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ
__________
(1) سورة البيّنة: 98/ 5.
(2) سورة البيّنة: 98/ 3.

الصفحة 18