كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 7)

آمَنَ وَهَلَكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْفُلْكِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ، كُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ يُحَذِّرُ بِهَا قُرَيْشًا نِقَمَ اللَّهِ وَيُذَكِّرُهُمْ نِعَمَهُ.
مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... أَفَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَ عُقُوبَتَهُ إِذَا عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ فَقالَ الْمَلَأُ أَيْ كُبَرَاءُ النَّاسِ وَعُظَمَاؤُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ هُمْ أَعْصَى النَّاسِ وَأَبْعَدُهُمْ لِقَبُولِ الْخَيْرِ. مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ مُسَاوِيكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ لَهُ «1» اخْتِصَاصٌ بِالرِّسَالَةِ.
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَطْلُبَ الْفَضْلَ عَلَيْكُمْ وَيَرْأَسَكُمْ كَقَوْلِهِ: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ «2» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْمَلَائِكَةِ وَهَذِهِ شِنْشِنَةُ قُرَيْشٍ وَدَأْبُهَا فِي اسْتِبْعَادِ إِرْسَالِ اللَّهِ الْبَشَرَ، وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ تَكُونَ إِلَى مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَفْضِ أَصْنَامِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ إِلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ بَشَرٌ، وَأَعْجِبْ بِضَلَالِ هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ وَاعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ الْحَجَرِ. وَقَوْلُهُمْ مَا سَمِعْنا بِهذا الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَاهِتِينَ وَإِلَّا فَنُبُوَّةُ إدريس وآدم لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مُتَطَاوِلَةً بِحَيْثُ تُنْسَى فَدَافَعُوا الْحَقَّ بِمَا أَمْكَنَهُمْ دِفَاعُهُ، وَلِهَذَا قَالُوا إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ وَمَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَتَرَبَّصُوا بِهِ أَيِ انْتَظِرُوا حَالَهُ حَتَّى يُجَلَّى أَمْرُهُ وَعَاقِبَةُ خَبَرِهِ.
فَدَعَا رَبَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَنْصُرَهُ وَيُظْفِرَهُ بِهِمْ بِسَبَبِ مَا كَذَّبُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يدل مَا كَذَّبُونِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا بِذَاكَ أَيْ بَدَلُ ذَاكَ وَمَكَانُهُ، وَالْمَعْنَى أَبْدِلْنِي مِنْ غَمِّ تَكْذِيبِهِمْ سَلْوَةَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَوِ انْصُرْنِي بِإِنْجَازِ مَا وَعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَا كَذَّبُوهُ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «3» انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ قالَ رَبِّ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ احْكُمْ «4» بِضَمِّ الْبَاءِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَكْثَرِ تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَنَهَاهُ تَعَالَى أَنْ يُخَاطِبَهُ فِي قَوْمِهِ بِدُعَاءِ نَجَاةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَبَيَّنَ عِلَّةَ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى نَجَاتِهِ وَهَلَاكِهِمْ وَكَانَ الْأَمْرُ لَهُ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ
__________
(1) سورة الأنعام: 95/ 6.
(2) سورة يونس: 10/ 78.
(3) سورة الأعراف: 7/ 59. [.....]
(4) سورة الأنبياء: 21/ 112.

الصفحة 557