كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 7)

وَالسَّلْامُ كَانَ مُوسَى أَشَدَّهُمْ عَلَيَّ حِينَ مَرَرْتُ بِهِ وَخَيْرَهُمْ لِي حِينَ رَجَعْتُ إِلَيْهِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَأَقْبَلْتُ رَاجِعًا فَمَرَرْتُ بِمُوسَى وَنِعْمَ الصَّاحِبُ كَانَ لَكُمْ فَسَأَلَنِي كَمْ فَرَضَ عَلَيْك رَبك الحَدِيث قَالَ بن أَبِي جَمْرَةَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قُلُوب الْأَنْبِيَاء أَكثر مِمَّا جعل فِي قُلُوبِ غَيْرِهِمْ لِذَلِكَ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ واما قَوْله هَذَا الْغُلَام فَأَشَارَ إِلَى صِغَرِ سِنِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ الْمُسْتَجْمِعَ السِّنِّ غُلَامًا مادامت فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقُوَّةِ اه وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَارَ إِلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِي الْكُهُولِيَّةِ وَإِلَى أَنْ دَخَلَ فِي سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى بَدَنِهِ هَرَمٌ وَلَا اعْتَرَى قُوَّتَهُ نَقْصٌ حَتَّى إِنَّ النَّاسَ فِي قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَمَّا رَأَوْهُ مُرْدِفًا أَبَا بَكْرٍ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الشَّابِّ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ اسْمَ الشَّيْخِ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْعُمْرِ أَسَنَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ مُوسَى بِمُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ لَعَلَّهَا لِكَوْنِ أُمَّةِ مُوسَى كُلِّفَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِمَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ غَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ فَأَشْفَقَ مُوسَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ إِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ انْتَهَى وَقَالَ غَيْرُهُ لَعَلَّهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاء من لَهُ اتِّبَاع أَكْثَرُ مِنْ مُوسَى وَلَا مَنْ لَهُ كِتَابٌ أَكْبَرُ وَلَا أَجْمَعُ لِلْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُضَاهِيًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ زَوَالَهُ عَنْهُ وَنَاسَبَ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ وَيَنْصَحَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ الْأَسَفُ عَلَى نَقْصِ حَظِّ أُمَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ حَتَّى تَمَنَّى مَا تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ بِبَذْلِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ لِيُزِيلَ مَا عَسَاهُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَأَى فِي مُنَاجَاتِهِ صِفَةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهُمْ فَكَانَ إِشْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ كَعِنَايَةِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ مُوسَى بِالتَّرْدِيدِ مِرَارًا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ وَقَعَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مُرَاعَاةِ جَانِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا وَقَعَ لَهُ حَتَّى فَارَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَبًا مَعَهُ وَحُسْنَ عِشْرَةٍ فَلَمَّا فَارَقَهُ بَكَى وَقَالَ مَا قَالَ قَوْلُهُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ كَأَحْسَنِ الرِّجَالِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ أَشَمَطَ جَالِسٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ عَلَى كُرْسِيٍّ تَكْمِلَةٌ اخْتُلِفَ فِي حَالِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ لَقْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ هَلْ أُسْرِيَ بِأَجْسَادِهِمْ لِمُلَاقَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوْ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَقِيَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْوَاحُهُمْ مُشَكَّلَةٌ بِشَكْلِ أَجْسَادِهِمْ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ بَعْضُ شُيُوخِنَا وَاحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُ مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ لَمَّا مَرَّ بِهِ قُلْتُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِرُوحِهِ اتِّصَالٌ بِجَسَدِهِ فِي الْأَرْضِ فَلِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلَاةِ وَرُوحُهُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي السَّمَاءِ قَوْلُهُ ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ مِنْ رُفِعْتُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَبَعْدَهُ حَرْفُ جَرٍّ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ رُفِعَتْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيِ السِّدْرَةُ لِي بِاللَّامِ أَيْ مِنْ أَجْلِي وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهَا أَيِ ارْتُقِيَ بِهِ وَظَهَرَتْ لَهُ وَالرَّفْعُ إِلَى الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى التَّقْرِيبِ مِنْهُ وَقَدْ قيل فِي قَوْله تَعَالَى وفرش مَرْفُوعَة أَي تقرب لَهُمْ وَوَقَعَ بَيَانُ سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي حَدِيث بن مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ انْتُهِيَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ

الصفحة 212