كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 7)
سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى مَغْرُوسَةً فِي الْجَنَّةِ وَالْأَنْهَارُ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِهَا فَيَصِحُّ أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ قَوْلُهُ اما الباطنان فَفِي الْجنَّة قَالَ بن أَبِي جَمْرَةَ فِيهِ أَنَّ الْبَاطِنَ أَجَلُّ مِنَ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْبَاطِنَ جُعِلَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالظَّاهِرَ جُعِلَ فِي دَارِ الْفِنَاءِ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ قَوْلُهُ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ أَنَّهُ رَأَى فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هُمَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَأَى هَذَيْنِ النَّهْرَيْنِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مَعَ نَهْرَيِ الْجَنَّةِ وَرَآهُمَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا دُونَ نَهْرَيِ الْجَنَّةِ وَأَرَادَ بِالْعُنْصُرِ عنصر امتيازهما بسماء الدُّنْيَا كَذَا قَالَ بن دِحْيَةَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ أَيْضًا وَمَضَى بِهِ يَرْقَى السَّمَاءَ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أنس عِنْد بن أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَأَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي عَلَى ظَهْرِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهْرٍ عَلَيْهِ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَعَلَيْهِ طَيْرٌ خُضْرٌ أَنْعَمَ طَيْرٍ رَأَيْتُ قَالَ جِبْرِيلُ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ فَإِذَا فِيهِ آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضٍ مِنَ الْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ قَالَ فَأَخَذْتُ مِنْ آنِيَتِهِ فَاغْتَرَفْتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَشَرِبْتُ فَإِذَا هُوَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَشَدُّ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَإِذَا فِيهَا عَيْنٌ تَجْرِي يُقَالُ لَهَا السَّلْسَبِيلُ فَيَنْشَقُّ مِنْهَا نَهْرَانِ أَحَدُهُمَا الْكَوْثَرُ وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الرَّحْمَةِ قُلْتُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِمَا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ الْبَاطِنَانِ السَّلْسَبِيلُ وَالْكَوْثَرُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَلَا يُغَايِرُ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ أَصْلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَثْبُتْ لِسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ أَنَّهُمَا يَنْبُعَانِ مِنْ أَصْلِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَيَمْتَازُ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَهُمَا غَيْرُ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْلَ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَنْزِلَانِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَسِيرَانِ فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ الْعَقْلُ وَقَدْ شَهِدَ بِهِ ظَاهِرُ الْخَبَرِ فَلْيُعْتَمَدْ وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ إِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْضِ لِكَوْنِهِ قَالَ إِنَّ النِّيلَ وَالْفُرَاتَ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِهَا وَهُمَا بِالْمُشَاهَدَةِ يَخْرُجَانِ مِنَ الْأَرْضِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ السِّدْرَةِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِهَا غَيْرُ خُرُوجِهِمَا بالنبع من الأَرْض وَالْحَاصِل ان أَصْلهَا فِي الْجَنَّةِ وَهُمَا يَخْرُجَانِ أَوَّلًا مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ يَسِيرَانِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يَنْبُعَانِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَضِيلَةِ مَاءِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ لِكَوْنِ مَنْبَعِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ وَكَذَا سَيْحَانُ وَجِيحَانُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَعَلَّ تَرْكَ ذِكْرِهِمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ لِكَوْنِهِمَا لَيْسَا أَصْلًا بِرَأْسِهِمَا وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَفَرَّعَا عَنِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ قَالَ وَقيل انما أُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْأَنْهَارِ أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِأَنْهَارِ الْجَنَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْعُذُوبَةِ وَالْحُسْنِ وَالْبَرَكَةِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَنْبِيهٌ الْفُرَاتُ بِالْمُثَنَّاةِ فِي الْخَطِّ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ
الصفحة 214