كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 7)

الصَّحَابَةُ وَقَدْ سَبَقَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ وَبُعِثْتُ فِي خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ وَفِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الَّذِي بَيْنَ الْبَعْثَةِ وَآخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً أَوْ دُونَهَا أَوْ فَوْقَهَا بِقَلِيلٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي وَفَاةِ أَبِي الطُّفَيْلِ وَإِنِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ تِسْعِينَ أَوْ سَبْعًا وَتِسْعِينَ وَأَمَّا قَرْنُ التَّابِعِينَ فَإِنِ اعْتُبِرَ مِنْ سَنَةِ مِائَةٍ كَانَ نَحْوَ سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ بَعْدَهُمْ فَإِنِ اعْتُبِرَ مِنْهَا كَانَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مُدَّةَ الْقَرْنِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْمَارِ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاتَّفَقُوا أَنَّ آخِرَ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَنْ عَاشَ إِلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي هَذَا الْوَقْتِ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ ظُهُورًا فَاشِيًا وَأَطْلَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا وَرَفَعَتِ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا وَامْتُحِنَ أَهْلُ الْعِلْمِ لِيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إِلَى الْآنِ وَظَهَرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ ظُهُورًا بَيِّنًا حَتَّى يَشْمَلَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالْمُعْتَقَدَاتِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ قَوْلُهُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَيِ الْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُمْ وَهُمُ التَّابِعُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَاقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلَ مِنَ التَّابِعِينَ وَالتَّابِعُونَ أَفْضَلَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لَكِنْ هَلْ هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوعِ أَوِ الْأَفْرَادِ مَحَلُّ بَحْثٍ وَإِلَى الثَّانِي نحا الْجُمْهُور وَالْأول قَول بن عَبْدِ الْبَرِّ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي زَمَانِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ لَا يَعْدِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ الْبَحْثِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتلوا الْآيَة وَاحْتج بن عَبْدِ الْبَرِّ بِحَدِيثِ مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لايدرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طُرُقٌ قَدْ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى الصِّحَّةِ وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَعَزَاهُ فِي فَتَاوِيهِ إِلَى مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ أَقْوَى مِنْهُ من حَدِيث أنس وَصَححهُ بن حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَأَجَابَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ الَّذِينَ يدركون عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَرَوْنَ فِي زَمَانِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَانْتِظَامِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَدَحْضِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَيَشْتَبِهُ الْحَالُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَيُّ الزَّمَانَيْنِ خَيْرٌ وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ مُنْدَفِعٌ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي وَالله اعْلَم وَقد روى بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرِ أَحَدِ التَّابِعِينَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْرِكَنَّ الْمَسِيحُ أَقْوَامًا إِنَّهُمْ لَمِثْلُكُمْ أَوْ خَيْرٌ ثَلَاثًا وَلَنْ يُخْزِيَ اللَّهُ أُمَّةً أَنَا أَوَّلُهَا وَالْمَسِيحُ آخِرُهَا وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ تَأْتِي أَيَّامٌ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ قِيلَ مِنْهُمْ أَوْ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلْ مِنْكُمْ وَهُوَ شَاهِدٌ لِحَدِيثِ مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ وَاحْتج بن عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَفَعَهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ إِيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ لَكِنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُمْعَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا أَسْلَمْنَا مَعَكَ وَجَاهَدْنَا مَعَكَ قَالَ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَاحْتج أَيْضا بِأَنَّ السَّبَبَ فِي كَوْنِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ خَيْرَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاءَ فِي إِيمَانِهِمْ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ حِينَئِذٍ وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ قَالَ فَكَذَلِكَ أَوَاخِرُهُمْ إِذَا أَقَامُوا الدِّينَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ

الصفحة 6