كتاب تحفة الأحوذي (اسم الجزء: 7)

فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَإِنَّهُمَا بِظَاهِرِهِمَا مُتَخَالِفَانِ
قُلْتُ أَوْجُهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنَ الْعَدَدَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ فَتَارَةً عَبَّرَ بِهِ وَأُخْرَى بِغَيْرِهِ تَفَنُّنًا وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ أَوْ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِأَرْبَعِينَ كَمَا أُوحِيَ إليه ثم أخبر ثانيا بخمس مائة عَامٍ زِيَادَةً مِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّقْدِيرُ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا إِشَارَةً إِلَى أَقَلِّ الْمَرَاتِبِ وَبِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ إِلَى أَكْثَرِهَا
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ وَلَفْظُهُ سَبَقَ الْمُهَاجِرُونَ النَّاسَ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ يَكُونُ الزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ مِائَةَ خَرِيفٍ
فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الزُّمْرَةُ الثَّالِثَةُ مِائَتَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا وَكَأَنَّهُمْ مَحْصُورُونَ فِي خَمْسِ زُمَرٍ أَوِ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ أَشْخَاصِ الْفُقَرَاءِ فِي حَالِ صَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَشُكْرِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ حَيْثُ قَالَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَرَادَ بِهَا تَقَدُّمَ الْفَقِيرِ الْحَرِيصِ عَلَى الْغَنِيِّ
وَأَرَادَ بالخمس مائة تَقَدُّمَ الْفَقِيرِ الزَّاهِدِ عَلَى الْغَنِيِّ الرَّاغِبِ فَكَانَ الْفَقِيرُ الْحَرِيصُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً مِنَ الْفَقِيرِ الزَّاهِدِ وَهَذِهِ نِسْبَةُ الْأَرْبَعِينَ إلى الخمس مائة وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَأَمْثَالَهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُزَافًا وَلَا بِاتِّفَاقٍ بَلْ لِسِرٍّ أَدْرَكَهُ وَنِسْبَةٍ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ) أَيْ بِقَلْبِكِ (وَقَرِّبِيهِمْ) أَيْ إِلَى مَجْلِسِكِ حَالَ تَحْدِيثِكِ (فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ بِتَقْرِيبِهِمْ تَقْرِيبًا إِلَى الله سبحانه وتعالى
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ آخَرُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ لَكَفَى حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ
فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْحُفَّاظِ الْعَسْقَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَقْرِ الْقَلْبِيِّ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الرِّضَاءِ بِالْقَضَاءِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى تَقْسِيمِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ انْتَهَى
قُلْتُ قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ قَوْلُهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ بِمَا نُقِلَ الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ
وَهَذَا الْحَدِيثُ سُئِلَ عنه الحافظ بن تَيْمِيَّةَ فَقَالَ إِنَّهُ كَذِبٌ لَا يُعْرَفُ فِي شيء من كتب المسلمين المروية وجزم الصغائي بِأنَّهُ مَوْضُوعٌ انْتَهَى

الصفحة 17