كتاب عون المعبود وحاشية ابن القيم (اسم الجزء: 7)

عامة وقد وقعت الإشارة في حديث بن عَبَّاسٍ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْعُمُومِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِهِ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى انتهى
وإنما قال إن حديث بن عَبَّاسٍ صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَعْنِي أَنَّهُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ فَلَا يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِهِ وَلَا لِتَقْيِيدِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يارسول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا فَقَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهُ كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ بِنَحْوِهِ

ــــــــــــQكالمنقول عن بن عَبَّاس سَوَاء فَلَا تَعَارُض بَيْن رَأْيهَا وَرِوَايَتهَا
وَبِهَذَا يَظْهَر اِتِّفَاق الرِّوَايَات فِي هَذَا الْبَاب وَمُوَافَقَة فَتَاوِي الصَّحَابَة لَهَا وَهُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيل وَالْقِيَاس لِأَنَّ النَّذْر لَيْسَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْع وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْد عَلَى نَفْسه فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْن الَّذِي اِسْتَدَانَهُ وَلِهَذَا شَبَّهَهُ النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم بالدين في حديث بن عباس
والمسؤول عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ صَوْم نَذْر وَالدَّيْن تَدْخُلهُ النِّيَابَة
وَأَمَّا الصَّوْم الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه عَلَيْهِ اِبْتِدَاء فَهُوَ أَحَد أَرْكَان الْإِسْلَام
فَلَا يَدْخُلهُ النِّيَابَة بِحَالٍ كَمَا لَا يَدْخُل الصَّلَاة وَالشَّهَادَتَيْنِ
فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا طَاعَة الْعَبْد بِنَفْسِهِ وَقِيَامه بِحَقِّ الْعُبُودِيَّة الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَأُمِرَ بِهَا
وَهَذَا أَمْر لَا يُؤَدِّيه عَنْهُ غَيْره كَمَا لَا يُسْلِم عَنْهُ غَيْره وَلَا يُصَلِّي عَنْهُ غَيْره
وَهَكَذَا مَنْ تَرَك الْحَجّ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَوْ تَرَك الزَّكَاة فَلَمْ يُخْرِجهَا حَتَّى مَاتَ
فَإِنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيل وَقَوَاعِد الشَّرْع أَنَّ فِعْلَهُمَا عَنْهُ بَعْد الموت لا يبرىء ذِمَّتَهُ
وَلَا يُقْبَل مِنْهُ
وَالْحَقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَع
وَسِرّ الْفَرْق أَنَّ النَّذْر اِلْتِزَام الْمُكَلَّف لِمَا شَغَلَ بِهِ ذِمَّته لَا أَنَّ الشَّارِع أَلْزَمهُ بِهِ اِبْتِدَاء فَهُوَ أَخَفّ حُكْمًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّارِع حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَالذِّمَّة تَسَعُ الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَالْمَعْجُوز عَنْهُ وَلِهَذَا تَقْبَل أَنْ يَشْغَلهَا الْمُكَلَّف بِمَا لَا قُدْرَة لَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ وَاجِبَات الشَّرْع
فَإِنَّهَا عَلَى قَدْر طَاقَة الْبَدَن لَا تَجِبُ عَلَى عاجز
فواجب الذمة أَوْسَعَ مِنْ وَاجِب الشَّرْع الْأَصْلِيّ لِأَنَّ الْمُكَلَّف مُتِمّكُنَّ مِنْ إِيجَاب وَاجِبَات وَاسِعَة وَطَرِيق أَدَاء وَاجِبهَا أَوْسَعَ مِنْ طَرِيق أَدَاء وَاجِب الشَّرْع
فَلَا يَلْزَم مِنْ دُخُول النِّيَابَة فِي وَاجِبهَا بَعْد الْمَوْت دُخُولهَا فِي وَاجِب الشَّرْع
وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ الصَّحَابَة أَفْقَهُ الْخَلْق وَأَعْمَقهمْ عِلْمًا وَأُعْرَفُهُمْ بِأَسْرَارِ الشَّرْع وَمَقَاصِده وَحِكَمِهِ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق

الصفحة 28