كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 7)
المحكم لتصوير مخلوقاته في مقاديرها، ومنعوا أن يكون له حكمة في أحكامها. ونقل هذا عنهم بعض أهل السنة من غير علمٍ لهم يقابلهم في نفي الحكمة، وإنما نقلوا عنهم أن الحكيم هو المُحْكِم لأفعاله، وحَسِبُوا أنهم قالوا ذلك نقلاً عن أهل اللغة كما يفعله أهل تفسير الغريب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، " إن هذا الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " (¬1)، فهذا أوان غرابته.
ألا ترى إلى هذه الطائفة -مع جلالتهم في الإسلام- يُبالغون في إنكار حكمة الله تعالى لما قَصَّرَتْ عن دركها أفهامهم، ويردونها إلى مجرد الإحكام الذي إذا تجرد عن الحكمة، كان من أقبح القبائح، فإن قصائد الكفار (¬2) في سبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسب أصحابه رضي الله عنهم أجمعين في غاية الإحكام بالنظر إلى أوضاع اللغة ولطائف المعاني والبيان. وكذلك كتب الزنادقة والفلاسفة في سب الباري سبحانه وتعطيله محكمة التصنيف والترصيف، فتكون حكمة الله تعالى في جميع مخلوقاته وكتبه ورسله وآياته راجعة إلى مثل ما رجع إليه أحكام السفهاء والجهلاء لقبائحهم وفواحشهم ومخازيهم.
وقد ثبت أن الشيطان الرجيم من العلماء بالله تعالى وصفاته ورسله وشرائعهم، ولذلك تمكن من الدعاء إلى الباطل، والصَّدِّ عن الحق، لأن ذلك لا يتم إلاَّ بعد العلم بهما، وقد أحكم وسوسته وشيطنته ومكايده. أفيصح أن يُسمَّى (¬3) حكيماً لإحكامه لأفعاله القبيحة؟! أو يصح أن يرجع بحكمه من صح وصفه بأن له الحكمة البالغة والحجة الدامغة إلى مثل ذلك.
قال أبو نصر الجوهري في " صحاحه " (¬4): الحُكْمُ -يعني: بضم الحاء-: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم صاحب الحكمة، والحكيم: المتقِنُ
¬__________
(¬1) حديث صحيح، وتقدم تخريجه 1/ 225 - 226.
(¬2) في (ش): " المشركين ".
(¬3) في (أ): " يكون يسمى ".
(¬4) 5/ 1901 - 1902.
الصفحة 309
330