كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم (اسم الجزء: 7)

في الحديث، فدرهم من لا يملك سوى درهمين أفضل من ألف درهم ممن يملك الملايين، فإن تساوت جهات الفضل فيها فأفضلها الجهاد لا ريب، ففيه تضحية بالنفس، وفيه النفع المتعدي إلى المسلمين جميعا وإلى الإسلام، وبخاصة إذا كان خالصا لله تعالى، وكان بالنفس والمال فلم يرجع بشيء.
وقد اختلفوا في أجر المجاهد يرجع بغنيمة، أو يرجع بدون غنيمة، هل أجره واحد؟ أو مختلف؟ والقواعد الشرعية تقتضي أن أجره عند عدم الغنيمة أفضل وأتم منه مع الغنيمة، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" وسيأتي هذا الحديث في باب خاص بعنوان: باب ثواب من غزا فغنم ومن غزا فلم يغنم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يؤيد أن الذي يغنم يرجع بأجر، لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح "فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئا" قال الحافظ: وقد استشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة، وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها، وأيضا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر -لأنهم غنموا الأسرى الذين أخذ منهم الفداء- أنقص من أجر أهل أحد مثلا، مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق، قال: ومن الناس من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وفساد هذا الوجه ظاهر، إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر، ولا أقل منه، ومنهم من حمل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر، لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم راجع إلى من أخلص، لقوله في أوله "لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي" واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره، لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب في ماله، فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أجل الأجر.
وذكر بعض المتأخرين حكمة لطيفة بالغة للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات، دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له، وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا، في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا، وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا. قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرا، بطريق المجاز.
وأجاب ابن دقيق العيد عن إشكال أهل بدر بأن التقابل ينبغي أن يكون بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه، إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة.

الصفحة 529