كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 7)

وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ: خَلْفٌ. وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ" سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا". فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ. هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ". وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَنَا القدم الأولى إليك وخلقنا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ «1»
لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحَمْلِ وَقَفْ
وَيُرْوَى: خَضَفَ، أَيْ رَدَمَ «2». وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الذَّمُّ. (وَرِثُوا الْكِتابَ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَرِثُوا كِتَابَ اللَّهِ فَقَرَءُوهُ وَعَلِمُوهُ، وَخَالَفُوا حُكْمَهُ وَأَتَوْا مَحَارِمَهُ مَعَ دِرَاسَتِهِمْ لَهُ. فَكَانَ هَذَا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا. يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ وَنَهَمِهِمْ. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وَالْعَرَضُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا، بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَبِإِسْكَانِهَا مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الرِّشَا وَالْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ باغترارهم في قولهم (سَيُغْفَرُ لَنا) وَأَنَّهُمْ بِحَالٍ إِذَا أَمْكَنَتْهُمْ ثَانِيَةً ارْتَكَبُوهَا، فَقَطَعُوا بِاغْتِرَارِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ سَيُغْفَرُ لَنَا مَنْ أَقْلَعَ وَنَدِمَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَؤُلَاءِ مَوْجُودٌ فِينَا. أَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ شَيْخٍ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو عن معاذ
__________
(1). كذا وردت هذه الأبيات في الأصول. والذي في اللسان" مادة خضف".
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا ما ناء بالحمل خضف
أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ ... لَا يُدْخِلُ البواب إلا من عرف

(2). الردم: الضراط.

الصفحة 311