كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

فصل: لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر
قال العُلَمَاء: إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر، وإنما ذكر هذا الوصف؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك؛ كقوله - تعالى -: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} [النساء: 94] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة، فكذا هَهُنَا.
فصل شبهة المعتزلة وردها
قالت المعتزلةُ: دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِهِ فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته، فلما قال: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} . علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ، لكان مُرِيداً لَهَا؛ ولو كان مُريداً لَهَا، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ.
والجواب: المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال: إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ.
ثم قال: {وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً} وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه، يعني: فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله، عليم بما تُضْمِرُه، وقيل: سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ.
قيل: «تُبْدُواْ خَيْراً» أي: حَسَنَةً فيَعْمَل بها، كُتِبَتْ عَشْرَةٌ، وإن هَمَّ بِهَا ولم يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ له حَسَنةٌ واحدةٌ، وهو قوله: «أَوْ تُخْفُوهْ» .
وقيل: المُراد مِنَ الخَيْرِ: المَال؛ لقوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} والمَعْنَى: إن تُبْدُوا صَدَقَةً تُعطُونَها جَهْراً، أو تُخْفُوها فتُعْطُوها سِرّاً، {أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء} أي: عن مَظْلَمةٍ والظاهر أن الضَّمِير المَنْصُوب في «تُخْفُوه» عائِدٌ على «خَيْراً» ، والمُراد به: أعْمَالُ البرِّ كُلُّها، وأجَازَ بَعْضُهم أن يعُودَ على «السُّوءِ» أي: أو تُخْفُوا السُّوءَ، وهو بَعِيد.
ثم قال: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} .
قال الحسن: يَعْفُو عن الجَانِبَيْن مع قُدرَتِهِ على الانْتِقَامِ، فعَلَيْكُم أن تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ، وقال الكْلَبِي: اللَّهُ أقْدَرُ على عَفْوِ ذُنُوبكُم مِنْكَ على عَفْوِ صَاحِبِك، وقيل: عَفُوًّا لمن عَفَى، قَدِيراً على إيصَالِ الثَّوَابِ إليْه.

الصفحة 101