كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} [المائدة: 88] ، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات، بل في المُحرَّمَات، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [البقرة 219] ، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [المائدة 3] .
وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان:
أحدهما: سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل، أي: خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ.
الثاني: قال ابنُ الأعْرَابِي: تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ، أي: تَغَيَّر رِيحُهَا.
فصل
قال القُرْطُبِي: تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، أي: في تِجَارَتِهِم، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس، وقالُوا: لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد.
قوله تعالى: «رجسٌ» : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة، فيقال: كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ، أي: إنما شأنُ الخَمْرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في «فاجْتَنِبُوهُ» كما سيأتي، وكذا قدَّره أبو البقاء، فقال: «لأنَّ التقدير: إنما عَمَلُ هذه الأشياء» . قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ: ولا حاجة إلى هذا، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ «رِجْسٌ» خبراً عن «الخَمْر» ، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها، قال شهاب الدين: وعلى هذا: فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً.

الصفحة 505