كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)
إشكالاً، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ، وهذا العاملُ الأولُ، وهو العداوة، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال: إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ، إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة.
فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية
اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة:
الأول: ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} .
والثاني: المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين، وهو قولُهُ تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} .
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر] : وأمَّا الخَمْرُ، فاعْلَم: أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل.
ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض، فلما [صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ: لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة، فينْقَلِبُ الأمْرُ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ.
وأمَّا المَيْسِرُ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ.
قال قتادةُ: كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه،
الصفحة 507
640