كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ ك «حِوَلٍ» و «عوَرٍ» ، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «قَيِّماً» بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [الآية 5]] .
فصل في معنى الآية
معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي: سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ والمَنَاسِكُ، وأمَّا الدُّنْيَا: فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات، وكانوا يَأمَنُونُ فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ، فكأنَّ أهلَ الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ إلى الحَرَمِ، لُمْ يُتعَرَّضْ له، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] .
والمرادُ بقوله: «قِيَاماً للنَّاس» أي: لِبَعْضِ النَّاسِ وهم العرب، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا قالُوا: النَّاسُ فَعَلُوا [وصنعُوا] كذا «، فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب على وفقِ عادَتِهِم.
قوله: {والشهر الحرام والهدي والقلائد} عطف على «الكَعْبَة» ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي: جعل الله أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً.
واعلم: أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً لِقِيام النَّاسِ وقوامِهِم، فأحَدُهَا: الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ. وثانيها: الشَّهْرُ الحرامُ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ: هو أنَّ العرب كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ، فإذا دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ، وأمِنُوا على أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول السَّنةِ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ، فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ.
والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ: الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب.
وثالثها: الهَدْيُ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاس: لأنَّ الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي، وقواماً لمعيشَة الفُقراء.
ورابعها: القلائِدُ، ومعنى كونها قواماً للناس: أنَّ من قصدَ البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ، معه هديٌ قد قلَّدَه، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ، حتَّى إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا

الصفحة 538