كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

يتعرَّضُ له ألْبتَّةَ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ.
فصل
قال القُرْطُبِي: ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء قِيَاماً للناس، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ الآدَميِّين، من التَّحَاسُدِ، والتَّنَافُرِ، والتَّقَاطُعِ، والتدابر، والسَّلْبِ، والغَارَةِ، والقَتْل، والثَّأرِ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ، فقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأمرهُم الله تعالى بالخلافَةِ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ، ويَحْملُهُم على التَّآلُف من التَّقَاطُعِ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ على ما تَسْتَوْلي عليه.
واعلم: أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه الفَائِدَة، لتجرِيَ على رأيه الأمُور، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ، [وأوقع في قُلُوبهم هَيْبَتَه] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] .
قوله «ذَلِكَ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و «تَعْلَموا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد لام كَيْ، لا بها، و «أنَّ اللَّه» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و {وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها.
فإن قيل: أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ.
قيل: لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم، لَعَجَزُوا عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم بالكُلِّيَّة، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً، وهو أنَّه تعالى ألْقى في قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ، فصار ذلك سبباً لحصُول الأمْن في البلدِ

الصفحة 539