كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

ولا حالاً عن الجُثَّة، وقد تقدَّم نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و «بِهَا» متعلِّق ب «كَافرينَ» ، وإنما قُدِّم لأجْلِ الفواصل.
لمَّا منع النَّاسَ من البَحْثِ عن أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالبَحْثِ عنها، كذلك مَنعَهُم من التزامِ أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالتِزَامِهَا، ولمَّا كان الكُفَّار يحرِّمُون على أنْفُسِهِم الانْتِفَاعَ بهَذِهِ الحيوانات، وإنْ كَانُوا في غاية الحَاجَة إلى الانْتِفَاع بها، بيَّنَ اللَّهُ - تعالى - أنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
«جَعَلَ» يجوز أن يكون بمعنى «سَمَّى» ويتعدَّى لمفعولَيْن، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جَعَلَ - أي ما سَمَّى - اللَّهُ حيواناً [بَحِيرَةً] .
قاله أبو البقاء. وقال ابن عطيَّة والزمخشريُّ وأبو البقاء: «إنَّها تكونُ بمعنى شرَعَ ووضَعَ، أي: ما شَرَعَ اللَّهُ ولا أمَرَ» ، وقال الواحديُّ - بعد كلامٍ طويلٍ - «فمعنى ما جعل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ: ما أوْجَبَهَا ولا أمَرَ بِهَا» ، وقال ابنُ عطيَّة: «وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكُونُ بمعنى» خَلَقَ «؛ لأنَّ الله خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى» صَيَّرَ «؛ لأن التصْييرَ لا بُدَّ له من مفعولٍ ثانٍ، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَعَ» . ومنع أبو حيان هذه النقولاتِ كلَّها بأنَّ «جَعَلَ» لم يَعُدُّ اللغويُّون من معانيها «شَرَعَ» ، وخرَّجَ الآية على التَّصْييرِ، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً، أي: ما صيَّّر الله بَحِيرَة مَشْرُوعَةً، وفي قوله لم يَعُدَّ اللغويُّون في معانيها «شَرَعَ» نظرٌ؛ لأن الآية المتقدمة تدل على ذلك وهي قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] .
والبَحِيرَة: فعيلَةٌ بمعنى مفعُولَة، فدخولُ تاءِ التأنيثِ عليها لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ الجَوَامِد أُنِّثَتْ، وقد تقدم إيضاح هذا في قوله {والنطيحة} [المائدة: 3] ، واشتقاقُها من البَحْرِ، والبَحْرُ: السَّعَةُ، ومنه «بَحْرُ المَاءِ» لِسَعَتِه وَهِيَ النَاقَةُ المَشْقُوقَةُ الأُذُنِ، يُقَالُ: بَحَرتُ أذن النَّاقَة إذَا شَقَقْتهَا شقّاً واسعاً، والنَّاقَةُ بَحِيرةٌ ومَبْحُورَةٌ.
واختلف أهلُ اللغة في البحيرةِ عند العرب ما هي اختلافاً كثيراً، فقال أبو عُبَيْدٍ: «هي الناقةُ التي تُنْتَجُ خمسةَ أبطنٍ في آخِرِهَا ذكرٌ، فتُشَقٌّ أذُنُهَا، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعىً ولا ماءٍ، وإذا لَقِيَهَا المُعْيي لم يركبْهَا» ورُوِيَ ذلك عن ابن

الصفحة 552