كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

قوله: «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ» : الجمهورُ على نَصْب «أنْفُسَكُمْ» وهو منصوب على الإغْرَاء ب «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنَّ «عَلَيْكُمْ» هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ: الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي: هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، ف «عَلَيْكُمْ» هنا يرفعُ فاعلاً، تقديره: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو: «عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ» ؛ كأنك قُلْتَ: الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو: إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب «عَلَى عَبْدِ الله» بجرِّ «عَبْدِ الله» وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني «عَلَى» وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه.
وقال أبو البقاء - بعد أن جعل «كُمْ» في موضع جرّ ب «عَلَى» بخلافِ «رُوَيْدَكُمْ» -: «فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن» رُوَيْد «قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] » كُمْ «في محل جَرٍّ» ، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ «رُوَيْد» تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه.
قال ابنُ الخطيب: قال النَّحْوِيُّونَ: «عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك» من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال: «عَلَيْك [زيداً] » كأنه قال: خُذْ زيْداً [فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك] ، وعِنْدَك زَيْداً، أي: حَضَرَك فَخُذْهُ، و «دُونَك» أي: قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا.
وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ: «أنْفُسُكُمْ» رفعاً فيما حكاه عنه صاحبُ «الكشَّاف» ، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، و «عَلَيْكُمْ» خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهم {نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] ، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء.
والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ في «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ.

الصفحة 558