كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)
ثُمَّ قال: إنَّ القُرآنَ نزلَ مِنْهُ آيٌ قد مضى تَأويلهُنَّ قَبْلَ أن يَنْزِلْن، ومِنْهُ آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومِنْهُ آيٌ: وقعَ تَاوِيلُهُنَّ بَعْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِيَسِيرٍ، ومنه آي: وقعَ تأويلهن في آخِرِ الزَّمَانِ، ومنه آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ يوم القيامة، وهو ما ذُكِرَ من الحِسَابِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فما دَامَتْ قلوبُكُمْ وأهْوَاؤكُمْ وَاحِدَةٌ، ولم تلْبسُوا شِيَعاً، ولم يَذُقْ بَعْضُكم بأسَ بَعْض، فأمُرُوا وانْهَوْا، فإن اخْتَلَفت القُلُوبُ والأهْوَاء وألْبِسْتُم شيعاً، وذاقَ بَعْضُكم بأسَ بعض، فامرؤ ونفسهُ، فعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَنَا تَأوِيلُ هذه الآيَة.
قال ابنُ الخَطيبِ: وهذا التَّأويلُ عندي ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الآيَةَ خِطَابٌ عامٌّ لِلْحَاضِرِ والغَائِبِ، فكيف يُخرجُ الحَاضِر، ويُخَصُّ الغَائِب. ورَوى أبُو أمَيَّة الشَّعبانِيِّ قال: «أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَة، فقُلْتُ: كيف نَصْنَعُ في هذه الآية؟ فقال: أيُّ آيةٍ؟ قلت: قَوْلُ الله - عزَّ وجلَّ -: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال: أمَا واللَّهِ لَقَدْ سألْتَ عنها خَبِيراً، سألتُ عَنْهَا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: بَلْ ائتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهوا عن المُنْكَر، حتَّى إذَا رَأيْتَ شُحَّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً، ودُنْيا مُؤثرة، وإعْجَاب كُلِّ ذِي رأيٍ برأيِهِ، ورَأيتَ أمْراً لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ودَعْ أمْرَ العَوَامِّ، وإنَّ وراءَكُم أيام الصَّبر، فَمَنْ صَبَرَ فيْهنَّ قبض على الجَمْر للعامل فيهنَّ مِثْلُ أجر خَمْسِين رجلاً يعملون مثله»
، قال ابن المبارك: وزادني غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجرُ خمسين منكم.
فإن قيل: ظَاهِرُ الآيةِ يُوهِمُ أنَّ الأمر بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عن المُنْكَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
فالجَوَابُ من وُجُوهٍ:
أحدها: أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ على ذلك، بل تَدلُّ على أنَّ المُطِيعَ لا يُؤاخَذُ بِذُنُوبِ العَاصِي، وأمَّا وُجُوب الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، فَثَبت بما تقدَّم من الدَّلائلِ وغَيْرِها.
وثانيها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بالكُفَّار المُصرِّين على الكُفْرِ، ولا يَتْرُكُون الكُفْر بسببِ الأمْر بالمَعْرُوفِ، فَهَهُنَا يَجِبُ على الإنْسَانِ مُخَالَفَةُ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ.
وثالثها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا إذا خَافَ الإنْسَانُ عند الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ على نَفْسِهِ وعِرضه وماله.
ورابعها: المعنى: لا يَضُرُّكُمْ إذا اهْتَدَيْتُم، فأمَرْتُمْ بالمَعْرُوف ونَهَيْتُم عَنِ المُنْكَر ضلالُ مَنْ ضَلَّ، فَلَمْ يقبَل ذَلِكَ.
وخامسها: أنَّه تعالى قال لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ
الصفحة 561
640