كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

والفاء في «فَأصَابتكم» عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ الشرط، وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} فيه وجهان:
أحدهما: أنها في محلِّ رفع صفة ل «آخَرَانِ» ؛ وعلى هذا: فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله «تَحْبسُونَهُمَا» صفةٌ لقوله «آخَرَانِ» ، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء، وابن عطيَّة، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ، فقال: «تَحْبِسُونَهُمَا» صفة ل «آخَرَانِ» واعترض بقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} ، وأفاد الاعتراضُ: أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر، وحلول المَوْت فيه، واستغني عن جواب «إنْ» ؛ لِما تقدَّم في قوله {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، فقد ظهر من كلامه: أنه يجعلُ الشرط قيداً في {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛ كما تقدَّم: «فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ» أو «فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» .
والثاني: أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشريُّ؛ قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قوله:» تَحْبِسُونَهُمَا «؟ قلتُ: هو استئنافُ كلام، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما: فكيفَ نَعْمَلُ، إن ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل: تَحْبِسُونَهُمَا» ، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها، وقال: «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناءً على مختاره في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب.
قال أبو حيان: «في قوله:» إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جرى على لفظ {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ، لكان التركيب: إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فأصابته، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ» أحَدَكُمْ «معناه: إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ» ، وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى آخره، وقال ابن عبَّاس: «في الكلام حذفٌ، تقديرُه: فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء» ، وعن سعيد بن جُبير: تقديره «وقد أُوصيتُم» ، قال بعضُهُم: «هذا أوْلَى؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ» . والخطابُ في «تَحْبِسُونَهُمَا» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه، و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «تَحْبِسُونَهُمَا» ، ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ: «

الصفحة 570