كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

و «علاَّمُ» مثالُ مبالغة، فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا أيضاً يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛ لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ. والجمهورُ على ضمِّ العينِ من «الغُيُوب» وهو الأصلُ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: «البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ» وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر {البيوت} [البقرة: 189] ، وستأتي كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا - إن شاء الله تعالى - وجُمِعَ الغيبُ هنا، وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه، وإن اريدَ به الشيءُ الغائب، أو قلنا: إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية 3] ، فواضح.
فصل في معنى الآية
مَعْنَى الآية الكَرِيمة: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} ، وهو يَوْمُ القِيَامَةِ {فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أممكم، وما الذي رَدَّ عليكم قومكم حين دَعوْتُمُوهم إلى تَوْحِيدِي وطَاعَتِي؟ فَيَقُولُون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} بوجْهٍ من الحِكْمَةِ عن سُؤالِكَ إيَّانَا عن أمْرٍ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا.
قال ابنُ جُرَيْج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لا عِلْمَ لنا بِعَاقِبَةِ أمْرِهِمْ، وبما أحدثوا من بعد يدلُّ عليه قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} أيْ: أنْتَ الذي تَعْلَمُ ما غَابَ، ونحن لا نَعْلَمُ ما غابَ إلاَّ ما نُشَاهِدُ.
فإن قيل: ظَاهِرُ قولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} يَدُلُّ على أنَّ الأنْبِيَاء لا يَشْهَدُون لأمَمِهِمْ، والجمعُ بَيْن هذا وبين قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] مشكل، وأيضاً قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] ، فإذا كانت أمَّتُنَا تَشْهَدُ لسَائِر الأمَمِ، فالأنْبِيَاءُ أوْلَى بأنْ يَشْهَدُوا لأمَمِهِم.
فالجواب من وجوه:
أحدها: قال ابنُ عباسٍ، والحسن، ومُجَاهد، والسدِّيُّ: إنَّ القِيَامَة زَلاَزِل وأهوالٌ، بحيث تَزُولُ القُلُوبُ عن مواضِعِهَا عند مُشاهَدَتِهَا، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - عند مُشَاهَدَةِ تلك الأهوال يَنْسُون أكْثَرَ الأمُور، فَهُنَالِكَ يَقُولُون: لا عِلْمَ لَنَا، فإن عادَتْ قلوبُهُمْ إلِيْهِم، فعند ذلك يَشْهَدُون للأمَمِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذا الجوابُ وإن ذَهَبَ إليه جَمْعٌ عَظِيمٌ من الأكَابِرِ فهو

الصفحة 594