كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)
عندي ضعيف؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صِفَةِ أهْلِ الثَّوَاب: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] ، بل إنَّه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] ، فكيف يَكُون حَالُ الأنْبِيَاء والرُّسُل أقَلّ من ذلك، ومَعْلُومٌ أنَّهُم لو خَافُوا لكَانُوا أقَلَّ من مَنْزِلَةِ هؤلاءِ الَّذِين أخْبَرَ اللَّهُ عنْهُم أنَّهُم لا يَخَافُون ألْبَتَّةَ.
وثانيها: أنَّ المُرَاد مِنْه المُبَالغة في تَحِقيقِ فَضِيحَتِهِمْ، كمنْ يقول لِغَيْرِه: ما تقولُ في فُلانٍ؟ فَيَقُولُ: أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، كأنَّه قيل: لا يَحْتَاجُ فيه إلى الشَّهادَة لِظُهُوره، وهذا أيضاً ليس بِقَوِيٍّ؛ لأنَّ السُّؤال إنَّما وقَع على كُلِّ الأمَّةِ، وكُلُّ الأمَّة ما كانوا كَافِرِين حتَّى يريدَ الرَّسُول بالنفي تَبْكِيتَهُمْ وفَضِيحَتهُم.
وثالثها: وهو الأصَحُّ، وهو اخْتِيَارُ ابن عبَّاسٍ: أنَّهم إنَّما قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تَعْلَمُ ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحنُ لا نَعْلَمُ إلاَّ ما أظْهَرُوا، فَعِلْمُك فيهم أقْوَى من عِلْمِنَا؛ فلهذا المَعْنَى نَفوا العِلْمَ عن أنْفُسِهِم؛ لأنَّ عِلْمهم عند الله تعالى كلا عِلْمٍ، وهذا يُرْوَى عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ورابعها: ما تقدَّم أنَّ قولَهُم: لا عِلْمَ لنا إلا أنَّا عَلِمْنَا جوابهم لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، ولا نَعْلَم ما كان منهم بَعْدَ وَفَاتِنَا.
وخامسها: قال ابن الخطيب: ثَبَتَ في عِلْمٍ الأصُول أنَّ العِلْمَ غير، والظَّنَّ غَيْر، فالحَاصِلُ أنَّ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ من حالِ الغَيْرِ إنَّما هو الظَّنُّ لا العِلْم، وكذلك قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكأنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» ، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - قالُوا: لا عِلْمَ لَنَا ألْبَتَّة بأحْوالِهِم، إنَّما الحاصِلُ عِنْدَنا من أحوالهم هو الظَّنُّ، والظَّنُّ كانَ مُعْتَبراً في الدُّنيا لا في الآخِرَةِ، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنْيَا كانت مَبْنِيَّةً على الظَّنِّ، أمَّا فِي الآخِرَة فلا التِفاتَ فيها إلى الظَّنِّ؛ لأنَّ الأحْكَام في الآخِرَة مَبْنِيَّةٌ على حَقائِقِ الأشْيَاء وَبَواطِنِ الأمُورِ، فلهذا السَّبَب قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] ولم يَذْكُرُوا ألْبَتَّة ما عندهم من الظَّنِّ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا عِبْرَة به في القِيَامَةِ.
وسادسها: أنهم لمَّا عَلِمُوا أنَّهُ تعالى عالمٌ لا يَجْهَل، حكيمٌ لا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لا يَظْلِم، عَلِمُوا أنَّ قولهم لا يفيد خَيْراً ولا يدفعُ شراً، فرأوْا أنَّ الأدَبَ في السكوت، وفي تَفْويضِ الأمْرِ إلى العَدْل الحَي الذي لا يَمُوتُ.
وسابعها: معناه: لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنَا فحذف، وهذا مَرْويٌّ عن ابن عبَّاسٍ، ومُجَاهد.
الصفحة 595
640