كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

فقال الحَوَارِيُّون: يا رُوحَ الله كُنْ أوَّل من يَأكُلُ منها، فقال: مَعَاذ الله أنْ آكُلَ منها، ولكن يأكُلُ منها من سَألَهَا، فَخَافُوا أن يَأكُلُوا منها، فدَعَا أهْلَ الفَاقَةِ والمَرَضِ وأهْلَ البَرَصِ والجُذَامِ والمُقْعَدِين وقال: كُلُوا من رِزْقِ الله - عزَّ وجلَّ - لكم الهنَاءُ، ولِغَيْرِكُم البَلاَءُ، فأكَلُوا، وصدر عنها ألْفٌ وثلثمائة رَجُلٍ وامْرأةٌ من فَقِيرٍ، وزمن ومريضٍ، ومُبْتَلى كُل مِنْهُم شَبْعَان، وإذا السَّمَكَةُ كَهَيْئَتِهَا حين نزلت، ثُمَّ طارتِ المائدةُ صعداً وهم يَنْظُرُون إلَيْهَا حتَّى تَوَارَتْ، فلم يَأكُلْ منها زمنٌ ولا مَرِيضٌ ولا مُبْتَلى إلاَّ عُوفِي، ولا فَقِير إلاَّ اسْتَغْنَى، ونَدِمَ من لم يأكُلْ فلَبِثَتْ أرْبَعِين صَبَاحاً تَنْزِلُ ضُحًى، فإذا نَزَلَت اجْتَمَع الأغْنِيَاء والفُقَرَاء والصِّغَارُ والكبارُ والرِّجَال والنِّساءُ، ولا تزالُ منْصُوبةً يُؤكَلُ منها حتَّى إذا فاء الفيءُ طارت، وهم يَنْظُرُون في ظِلِّها حتى تَوَارَتْ عَنْهُم، فكانت تَنْزِلُ غِبّاً تَنْزِلُ يوماً ولا تَنْزِلُ يَوْماً كَنَاقَةِ ثَمُود، فأوْحى اللَّهُ - تبارك وتعالى - إلى عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: اجعل مَائِدَتِي ورِزْقِي للفُقَرَاءِ دُون الأغْنِيَاء، فعظم ذلِكَ الأغْنِيَاء حتى شَكُّوا وشَككُوا النَّاسَ فيها، وقالُوا: تَرَوْن المائدةَ حقاً تَنْزِلُ من السَّمَاء؟ فأوْحَى الله - تبارك وتعالى - إلى عيسى: إنِّي شَرَطْتُ أنَّ من كَفَرَ بَعْد نُزُولِها، عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمِين، فقال - عليه السلام -: «إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبَادُكَ، وإن تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزيز الحَكِيمُ» فَمَسَخ اللَّهُ منهم ثلاثمائة وثلاثِين رجُلاً من لَيْلَتِهِمْ على فُرُشِهِم مع نِسَائِهِم، فأصْبَحُوا خَنَازِير يَسْعَون في الطُّرُقَات والكنَّاسَات، ويأكُلُون العُذْرَة في الحشُوشِ، وعاشُوا ثلاثة أيَّامٍ ثُمَّ هلكوا والعياذ باللَّه.
اختلَفُوا في هذا القَوْلِ، هَلْ وقع وانْقَضَى، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين:
الأول: قال بعضُهم: لمَّا رفعهُ إليه، قال له ذلك، وعلى هذا ف «إذْ» و «قَالَ» على موضوعهما منَ المُضِيِّ، وهو الظاهر، وقال بعضُهم: سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] [الآية] ، وقوله بعد هذا: {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] وعلى هذا ف «إذْ» ، و «قَالَ» بمعنى «يَقُولُ» ، وكونُها بمعنى «إذَا» أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ: إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة.
قوله: «أأنْتَ قُلْتَ» دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان، وهو: أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة، فيقال: «أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً» ، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود، وإنما

الصفحة 617