كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 7)

وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاق «الرقيب» . و «عليهم» معلَّقٌ به. و «على كلِّ شيء» متعلِّقٌ ب «شهيد» قُدِّمَ للفاصلة.
فصل
معنى الكلام {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون، ما دمتُ مُقِيماً فيهم، «فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي» والمرادُ منهُ: الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] .
و {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ، قال الزجاج: الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم.
فالشَّهِيدُ: المُشاهِد، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ.
فيه سؤالٌ: وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ؟ والجوابُ من وُجُوه:
الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] ، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة.
والثاني: أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة، ويدخل الزُّهَّاد النَّار؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه، فكان غَرَضُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: القادرُ على ما تُريدُ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ، وما أحسن ما قِيلَ: فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ، فإن غَفَرْتَ، ففضلٌ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ.

الصفحة 624