كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 7)
صفحة رقم 52
جبلوا عليها ، فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله : ( كنتم تعملون ) أي مواظبين على ذلك لا تفترون .
ولما كان الأكل أعم الحاجات وأعم الطلبات ، قال تعالى مبيناً أن جميع أكلهم تفكه ليس فيه شيء تقوتاً لأنه لا فناء فيها لقوة ولا غيرها لتحفظ بالأكل ولا ضعف ) لكم فيها فاكهة ) أي ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً .
ولما كان ما يتفكه في الدنيا قليلاً قال تعالى : ( كثيرة ( ودل مع الكثرة على دوام النعمة بقصد التفكه بكل شيء فيها بقوله : ( منها ) أي لا من غيرها مما يلحظ فيها التقوت ) تأكلون ( فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع ، لا يؤخذ منه شيء إلا خلف مكانه مثله أو أكثر منه في الحال .
ولما ذكر ما للقسم الثاني من الإخلاء وهم المتقون ترغيباً لهم في التقوى ، أتبعه ما لأضدادهم اهل القسم الأول تحذيراً من مثل أعمالهم ، فقال استئنافاً مؤكداً في مقابلة إنكارهم : ( إن المجرمين ) أي الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ) في عذاب جهنم ) أي النار التي من شأنها لقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ) خالدون ( لأن إجرامهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا .
ولما بين إحاطته بهم إجاطة الظرف بمظروفه ، وكان من المعلوم أن النار لا تفتر عمن لابسته إلا بمفتر بمنعها بماء يصبه عليها أو تقليل من وقودها أو غير ذلك خرقاً للعادة ، بين أن لا يعتريها نقصان أصلاً كما يعهد في عذاب الدنيا لأنهم هم وقودها فقال تعالى : ( لا يفتر عنهم ) أي يقصد إضعافه بنوع من الضعف ، فنيف التفتير نفي للفتور من غير عكس ، قال البيضاوي : وهو من فترت عنه الحمى - إذا سكنت ، والتركيب للضعف .
ولما كان انتظار الفرج مما يخفف عن المتضايق ، نفاه بقوله : ( وهم فيه مبلسون ) أي ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج .
ولما كان ربما ظن من لا بصيرة له أن هذا العذاب أكبر وأكثر مما يستحقونه ، أجاب سبحانه بقوله ليزيد عذابهم برجوعهم باللائمة على نفسوهم ووقوعهم في منادمات الندامات : ( وما ظلمناهم ( نوعاً من الظلم لأنه تعالى مستحيل في حقه الظلم ) ولكن كانوا ( جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً دائماً ) هم ) أي خاصة ) الظالمين ( لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك بقوا ، والأعمال بالنيات ، ولو كانوا يقدرون على أن لا يموتوا لما ماتوا .