كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 7)

صفحة رقم 8
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به ، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة ، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به ، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال : ( فأهلكنا ( وكان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال : ( أشد منهم ) أي من قريش الذي يستهزئون بك ) بطشاً ( من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الله الأعلى .
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عن الإهلاك كان أضعف حال حال ليعتبر هؤلاء فقال : ( ومضى مثل الأولين ) أي وقع إهلاك الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم ، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء ، فإن الحال أدى إلى انهم أضعف من الأضعف من بين العنكبوت فينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة .
ولما كان التقدير : فلئن سألتهم عمن سمعوا بخبره ممن ذكرناهم من الأولين ليعترفن بما سمعوا من خبرهم لأنا لم نجعل لهم على المباهتة فيه جرأة لما طبعناهم عليه في أغلب أحوالهم من الصدق ، عطف عليه قولهم مبيناً لجهلهم بوقوعهم في التناقض مؤكداً له لما في اعترافهم به من العجب المنافي لحالهم : ( ولئن سألتهم ( أيضاً عما هو أكبر من ذلك وأدل على القدرة ، وجميع صفات الكمال فقلت لهم : ( من خلق السموات ( على علوها وسعتها ) والأرض ( على كثرة عجائبها وعظمتها ) ليقولن ) أي من غير توقف .
ولما كان السؤال عن المبتدأ ، كان الجواب المطابق ذكر الخبر ، فكان الجواب هنا : الله - كما في غيره من الآيات ، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية لافتاص القول عن مظهر العظمة إلى ما يفيد من الأوصاف القدرة على كل شيء ، وأنه تعالى يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء مكرراً للفعل تأكيداً لاعترافهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظيم غلطهم ، فقال معبراً بما هو لازم لاعترافهم له سبحانه بالتفرد بالإيجاد لأنه أنسب الأشياء لمقصود السورة وللإنابة التي هي مطلعها .
) خلقهن ( الذي هو موصوف بأنه ) العزيز العليم ) أي الذي يلزم المعترف بإسناد هذا الخلق إليه أن يعترف بأنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء وأن علمه محيط بكل شيء ، فيقد على إيجاده على وجه من

الصفحة 8