كتاب الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي (اسم الجزء: 7)

فإذا أُكره المسلم على تعاطي شئ منها أُبيح له ذلك، لأن الله تعالى أباحها عند الاضطرار، فإنه سبحانه قال بعد تحريمها: "إلا ما اضْطُرِرْتم إليه" (الانعام: 119)، والاستثناء من التحريم دليل الإباحة.
وقال جلّ وعلا: (فمَن اضْطُرّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثَم عليه) (البقرة: 173). ونفى الإثم دلل الإباحة ايضاً.
والمستكرَه على تعاطيها مضطر، فيشمله الحكم.
فلو امتنع من تعاطيها حتى ناله الأذى كان مؤاخَذاً، لأنه بامتناعه يُلقي بنفسه الى التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك إذ قال: "ولا تُلْقوا بايديكم الى التهلكة" (البقرة: 195)
هذا من حيث المؤاخذة الأُخروية.
وأما من حيث الأحكام الدنيوية: فقد بحث الفقهاء في أثر الإكراه على شرب الخمر: هل يُحَدّ شاربه أوْ لا؟ وما حكم تصرّفاته حال سكره؟ فقالوا: إن مَن أُكره على شرب الخمر لا يُقام عليه الحدّ، لأن الحدّ شُرع زجراً عن فعل هذه الجناية في المستقبل، والمستكره على شرب الخمر لم يكن فعله جناية، لأنه أُبيح له، بل صار واجباً عليه، طالما أنه يأثم إذا لم يفعله حتى وقع عليه ما هدِّد به.
وكذلك قالوا: لا تنفذ تصرفات من أُكره على الشرب حال سكره، لأن نفاذ تصرفات السكران تكون حال إثمه بسكره - أي عند شربه المُسكر باختياره دون عذر - تغليظاً عليه وزجراً له عن فعله، ولا معنى لهذا التغليظ حال الإكراه على السُكْر، لأن الغرض منه غير متحقِّق، إذ لم يقدم المستكرَه على الفعل باختياره، وهو غير آثم به كما علمت.
والعمدة في هذا والذي سبقه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (اخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكرَه والناسي، وقد جاء الحديث من طرق عند غيره، مع اختلاف في بعض الألفاظ).
والمعنى: وضع عنهم حكم ذلك وما يترتب عليه، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة.

الصفحة 202