كتاب تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (اسم الجزء: 7)
هو ما ذكرنا، أي: لا تحمل نفسق خطيئةَ أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، واللَّه أعلم؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى.
والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها، وأمَّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
يحتمل: ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه، وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه، أو أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إفضالًا منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم، والحجة قد قامت عليهم، والعذاب الذي كانوا يعذبونهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر دائم أبدًا لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع وينفصل، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدًا لا ينقطع.
وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعمل، حيث قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون: من أنتم ومن بعثكم إلينا؛ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم، لكن اللَّه بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة:
فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم ويعلم بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) وهو ما ذكرنا، أي: نخرج بذلك العمل كتابًا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة.
الصفحة 19
608