كتاب تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (اسم الجزء: 7)
كانا يؤثرانه على أنفسهما في السرور، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور، فأمر الولد أن يشكر لوالديه؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر.
وهذا ذكر في الحال التي عجزا هما عن القيام لأمر أنفسهما، والحوائج لهما، وذلك - واللَّه أعلم - لأنهما إذا كانا قويين، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما، ويحسنان إليه؛ فيحمل برهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البر، والإحسان إليهما على المجازاة، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضًا يبعث ذلك على المكافأة؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع؛ لذلك ذكر - واللَّه أعلم - الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز؛ حيث قال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا).
ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها، وهو حال طفوليته وصغره: أن كيف ربَّياه، وبراه، وعطفا عليه، ولانا له - قولًا وفعلا - حتى لم يستقذرا منه شيئًا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث؟! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها: من الجهل والضعف، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما، أي: لا يستقذر هو منهما، ولا يبعد عنهما؛ كما لم يستقذرا هما منه، ولا ينهرهما عند السؤال والحاجة إليه؛ كما لم يفعلا هما له؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا، وهو ما قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)، أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها. وهو حال الضعف والجهل؛ حيث قال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ. . .) الآية، وقال: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ. . .) الآية.
فقال: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ): هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تُعنفْهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُفٍّ) المراد به: هو (أُفٍّ) لا غير، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تعنفهما،
الصفحة 28
608