كتاب تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (اسم الجزء: 7)

ولا تخشن، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وأَخرها، أي: لا تقل لهما (أُفٍّ) على ما يستثقل الناس شيئًا ويكرهون في أول حال يرون شيئًا مستثقلًا مكروهًا - يقولون: أُفٍّ، أي: لا تقل أُفٍّ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ. . .) الآية قَالَ بَعْضُهُمْ: يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج؛ ومنه يكون بدء الفجور.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): ذكر أول حال وآخرها؛ ليمتنعوا عن كل ذلك؛ فعلى ذلك قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا): ذكر أول الحال وآخرها.
والثاني، أي: لا تظهر في وجهك من الكراهة وإلاستئقال ليحمل ذلك على العنف وإلاثتهار - فإن كان تأويل قوله: (أُفٍّ) - (أُفٍّ) لا غير، ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: إذا نفخ المصلي في موضع سجوده، فهو كلام يقطع صلاته؛ حيث قال (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، أي: لا تتكلم به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً).
حيث نهاه أن يقول لهما: أُفٍّ، ونهاه أن ينهرهما؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولا لينا لطيفًا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: نهرته وانتهرته، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد.
وقال أبو بكر الكَيساني: الكريم: هو الذي يُولِي على آخَرَ نعمه، ويهنيه بترك الأذى والمن؛ كقوله: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، وقال غيره: في وصف السخي، فقال: الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه. ويشبه أن يكون الكريم قريبًا منه.
فَإِنْ قِيلَ: إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البر لأولادهما، والشفقة عليهم، ولا كذلك الأولاد؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولًا به مطبوعًا عليه - برَّ من لم يكن ذلك بطبعه.
قيل: لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين، وأمرهم بذلك؛ لأن ما يفعل الوالدان من البر والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع، والولد لا؛ لذلك كان ما ذكر واللَّه أعلم. ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده؛ إذ ليس القصاص حياة بينهم، وشرع قتل الولد بوالديه؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد، وليس في الولد ذلك؛

الصفحة 29