كتاب تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة (اسم الجزء: 7)

فجعل في قتل الولد والديه القصاص، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة فيما قرن اللَّه من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ).
قيل: لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر.
وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة؛ حيث قال في المكاتب: إذا اشترى والده أو أمَّه صار مكاتبًا، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه - لم يصر مكاتبًا؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر؛ فعليه ذلك، وأمَّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف؛ فملكه لا يحتمل ذلك.
والخطاب من اللَّه - وإن كان مع رسوله - فالمراد منه غيره؛ لأن رسول اللَّه معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره - كل محتملٍ منه، ذلك وموهوم منه - وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر، وجناح الطائر يداه؛ فكأنه قال: اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، أي: اخضع لهما قولًا وفعلًا.
ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس، أي: اخضع لهما بجميع النفس والجوارح، وقوله: (الذُّلِّ): يحتمل أن يكون المراد من الذل: الذل نفسه، أي: كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة، ولكن ذليلًا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب، أي: اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). وذكر مقابل الذل في تلك الآية - الرحمة في هذا، ومقابل العزة - الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: جناح الذل كناية عن الرحمة؛ فيكون معناه: أن اخضع لهما

الصفحة 30