كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وُجِدَ.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ مِنْ الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] أَبَاحَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَنَا الصُّلْحَ مُطْلَقًا، فَيَجُوزُ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي الثَّانِي مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا ` غَلَبُوا عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ، وَخِيفَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ، وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ؟ وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ؛ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى، وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ.

(وَأَمَّا) حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَمَانِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ إنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمَ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ فَيْئًا، لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَلَوْ أَسَرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، كَانَ فَيْئًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ فَهُوَ آمِنٌ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا دَخَلَ تَاجِرًا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] فَإِذَا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ، فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لَمْ يَبْلُغْ قَوْمَهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وَتَغْرِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّبْذُ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا بِالنَّبْذِ، وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ، لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ عَلَى جَعْلٍ، أَخَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجَعْلِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، هَذَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.
(فَأَمَّا) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهُ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ، لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ، فَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ (إمَّا) أَنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ.
(وَإِمَّا) أَنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَاَلَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ، هُوَ النَّبْذُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ، فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّبْذِ، نَحْوُ أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ النَّبْذِ، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً لِلنَّقْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ؟ كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ،

الصفحة 109