كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

شَجَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لِإِظْهَارِهِ، إلَّا بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هَذَا.
وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ مُبَاحًا، مُلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ، وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَرْعُ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ: الْأَخْذُ حَقِيقَةً، فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ رَجَعَ هَذَا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ إنَّهُ يَعُودُ حُرًّا كَمَا كَانَ كَذَا هَذَا وَلَوْ ادَّعَى هَذَا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ.
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فَكَأَنَّ دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَتُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْآخِذُ: إنِّي آمَنْتُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ.
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ دَخَلَ هَذَا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يُبْطِلْ الْمِلْكَ، فَالْحَرَمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْحَرَمِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُبَايَعُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ.
وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ، وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، فَإِذَا أَمَّنَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَرْمُوقٌ وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَكَانَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْأَخْذُ فِي الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لَكِنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فِي الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَا دَامَ فِيهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا.
الْأَوَّلُ: فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ، أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَنَعَةِ، وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْمَنَعَةَ أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا أَمْوَالًا مِنْهُمْ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ بِالْإِجْمَاعِ.
سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِوُجُودِ الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً، وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَلَوْ دَخَلَ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، كَانَ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً عَلَى مَا

الصفحة 117