كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ بِالْخَرَاجِ بَلْ يَقْسِمُهَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ، فَكَانَ التَّرْكُ فِي أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فِيهَا بَيْنَ خِيَارَاتٍ، ثَلَاثٍ، إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى مِنْهُمْ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ هُوَ الْإِبَانَةُ مِنْ الْمِفْصَلِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ حَالَ الْقِتَالِ، وَيُقْدَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ، وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْقَتْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ جَاءَتْ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» .
أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ، لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا، بَلْ يُقْتَلُونَ أَوْ يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَجَمِ، وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْمُرْتَدِّينَ، وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ، وَهُمْ فِي الْكُفْرِ سَوَاءٌ، فَكَانُوا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْهُمْ فَيُسْتَرَقُّونَ كَمَا يُسْتَرَقُّ نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَرَقَّ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَهُمْ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ.
وَكَذَا الصَّحَابَةُ اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ، فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ جَازَتْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسِيرِ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ، لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَرَجَعَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَالَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَذَا مَنَّ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ بِدُونِهَا، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.

وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى؟ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ تَجُوزُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ كَيْفَ مَا كَانَ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَوَازُ، وَالْإِبَاحَةُ.
(وَلَنَا) أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا، وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ، فَلَا يَجُوزُ

الصفحة 119