كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَكَمَ فِيهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْإِمَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ، أَوْ بِالِاحْتِلَامِ عَلَى قَدْرِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ، وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ، وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ، إنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ، إمَّا لَا يَرْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ، قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ، وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
(أَمَّا) قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ فَكَذَا هَذَا.

(وَأَمَّا) قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَصْلًا فِيهَا، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْأَحْرَارِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ، أَوْ حَقِّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي حَالِ فَوْرِ الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: (مِنْهَا) أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُشَارِكُونَهُمْ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجَازِفًا غَيْرَ مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تَجُوزُ.
(فَأَمَّا) إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ بِأَوْطَاسٍ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْجِعْرَانَةِ» وَهِيَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ بَدْرٍ، وَأَدْنَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَالٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ، وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ، وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ، أَوْ يَخْرُجُ الْمَحَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ الْمِلْكُ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
(أَمَّا) الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ.

(وَأَمَّا) قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ؛ فَلِأَنَّ الْغُزَاةَ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ لَيْسَ بَنَادِرِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، وَالْمِلْكُ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ فَلَا يَزُولُ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: فَأَمَّا غَنَائِمُ خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ، فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ.
(وَأَمَّا) غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَمَهَا بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ

الصفحة 121