كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ الدِّيَةَ فِي بَابِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.
وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرٌ الشَّامَ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ، وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بِمَالِهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا لَهُ، فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ؛ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعَسْكَرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ، وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، وَشَرْطُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا تُقْضَى، كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ، إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بِهَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ، وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا عَلَى الشَّرْعِ، بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلْقِ نَفْسِهِ، وَسَائِرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَمْ تَبْلُغْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ.

وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَقَالَ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَلِهَذَا حَرُمَ مَعَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ عَلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ عَاقَدَ هَذَا الْمُسْلِمُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أَوْ دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا مِنْ الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَالسَّاقِطُ شَرْعًا، وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَمَالُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا، وَحُرْمَةُ الْمَالِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَإِنَّ مَالَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا لَا يَقْضِي بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا؛

الصفحة 132