كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

قِيمَتَهَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ، بَلْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ.
فَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُرْضِيَهُ عَلَى الْإِرْضَاءِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَرِضَاهُ لَا عَلَى الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ لَا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَهُوَ.
قِيَاسُ.
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الشَّاةِ الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا مَنْ شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ، إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ، فَكَانَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ طَيِّبَةٌ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا، فَيَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَتْلَفَ وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عَنْ الرِّبْحِ.
(وَأَمَّا) الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمَالِكِ، وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا.
(وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ، يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ مِنْهُ، وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَهِيَ الزِّرَاعَةُ فِي أَرْضِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِلْكًا لَهُ، وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الرِّبْحِ، وَذَا لَيْسَ بِرِبْحٍ فَلَمْ يَحْرُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يُفِيدُ الطَّيِّبُ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا، أَوْ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الرِّبْحُ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ، وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ أَمَا لَا تُوجِبُ التَّضْمِينَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شَيْئًا هَلْ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ؟ .
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ مِنْهَا، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ، وَالْمَنْقُودَةُ بَدَلٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ، فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً، وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عَنْهَا، فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى، وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يَقُولُ: إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ النَّقْدُ مِنْهَا فَإِذَا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ مِنْهَا تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى، فَكَانَ خَبِيثًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ الشُّبْهَةِ

الصفحة 154