كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

عَجُوزًا فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ، أَوْ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 33] وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الرِّجَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فَنَسَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، أَوْ مُحْتَرِفًا فَنَسَى الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى مَرْغُوبٌ فِيهِ.
وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبَلَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى، فَلَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ، أَوْ حَدَثَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ عَلَى حِدَةٍ، فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا عَلَى حِدَةٍ، فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ عَلَى حِدَةٍ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَقَلِّ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى مِنْ الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ الْغَاصِبِ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ أَوْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَى إلَى الْوِلَادَةِ، وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَإِذَا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هُوَ التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ.
وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بِهَا مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ.

وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَحَدَثَ فِي يَدِهِ، وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْأَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الضَّرْبُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ النُّقْصَانُ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَقُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ سَارِقًا فَقُطِعَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ، وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شُهُودِ الزِّنَا: إذَا رَجَعُوا بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا، فَلَمْ يُضَفْ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهَا كَذَا هَذَا، قِيلَ لَهُ: إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ

الصفحة 156