كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ عَيْنًا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَقِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا قِيَمُ أَعْيَانٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِذَا نَقَلَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ، فَلَوْ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ.
وَقَدْ انْتَقَصَ السِّعْرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ مَا حَصَلَ بِصُنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْنِي مَصْنُوعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ فِي الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، أَوْ أَكْثَرَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ، وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا لَهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَدِّ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ.
وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أَوْ الضَّرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَالْتَقَيَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَخَذَ قِيمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ وَقْتَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ سِعْرُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي الْتَقَيَا فِيهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ الَّتِي لِلْعَيْنِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْمِثْلِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، فَالْجَبْرُ عَلَى الْأَخْذِ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً، وَقِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقَلُّ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْمِثْلَ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ الَّتِي لَهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَانْتَقَصَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِصُنْعِهِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ ابْتَلَّتْ، أَوْ صَبَّ الْغَاصِبُ فِيهَا مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ.
إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غُصِبَتْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهَا قِيمَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا، أَوْ دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، أَوْ كَسَرَهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ فِي الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ

الصفحة 159