كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

رَضِيَ بِالضَّرَرِ حَيْثُ طَلَبَ الْقِسْمَةَ فَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا أَصْلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ إضْرَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِالضَّرَرِ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الْإِضْرَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
(وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ؛ لِكَوْنِ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ، وَقِسْمَةُ الْجَبْرِ لَمْ تُشْرَعْ بِدُونِ الطَّلَبِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ قَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَصْلًا فَجَازَتْ قِسْمَتُهَا.
وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا مَوْضِعٌ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شُرِطَ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ إلَى الطَّرِيقِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ لَهُ فِيهَا إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ بِفَتْحِ طَرِيقٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ أَصْلًا فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْقِسْمَةِ؛ فَلَهُ حَقُّ الِاخْتِيَارِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِنْ الْحُقُوقِ فَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ فِي حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُسِمَتْ بِغَيْرِ مَسِيلٍ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا، وَوَقَعَ الْمَسِيلُ فِي نَصِيب الْآخَرِ؛ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ، وَلَا مَسِيلَ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تَقَعُ إضْرَارًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ.
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْجَمْعِ: فَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تَجُوزُ فِي جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ تَقَعُ وَسِيلَةً إلَى مَا شُرِعَتْ لَهُ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ - وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لَهَا إذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي الْأَمْثَالِ الْمُتَسَاوِيَةِ، وَهِيَ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ؛ لِانْعِدَامِ التَّفَاوُتِ، وَكَذَلِكَ تِبْرُ الذَّهَبِ وَتِبْرُ النُّحَاسِ وَتِبْرُ الْحَدِيدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمَطْلُوبِ لَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَقِلُّ.
وَالتَّفَاوُتُ الْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْبَرُ بِالْقِيمَةِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ الْمُنْفَرِدَةُ، وَكَذَا الْيَوَاقِيتُ الْمُنْفَرِدَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ فِي جِنْسَيْنِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَزْرُوعِ وَالْعَدَدِيِّ قِسْمَةُ جَمْعٍ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالثِّيَابِ الْبَرْدِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ، وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ وَالْيَوَاقِيتُ، وَكَذَا الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَرْدٌ كَبِرْذَوْنٍ وَجَمَلٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَجُبَّةٍ وَقَمِيصٍ وَوِسَادَةٍ وَبِسَاطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمْعِ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا، وَإِمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بِإِنْ يَضُمَّ إلَى بَعْضِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِأَحَدِهِمَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الضَّرَرِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدَّرَاهِمِ.
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الْقِسْمَةُ، حَتَّى لَوْ اقْتَسَمَا ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ وَزَادَ مَعَ الْأَوْكَسِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً جَازَ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةَ الرِّضَا لَا قِسْمَةَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا الْأَوَانِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا أَوْ اتَّحَدَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالصِّنَاعَةِ أَخَذَتْ حُكْمَ جِنْسَيْنِ، حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْأَوَانِي الصِّغَارِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ.
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِسْمَةُ جَمْعٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ عَلَى اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا وَقِيمَتِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ الْقِسْمَةَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِدُونِ شَرْطِ جَوَازِهِ مُحَالٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَوْ قَسَمْنَاهَا رِقًّا - بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا - فَقَدْ أَضْرَرْنَا بِأَحَدِهِمَا لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ عَبْدٍ وَعَبْدٍ فِي الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَكَانَا فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِالْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَسَمْنَاهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ فِي الْقِيمَةِ، وَالْمَحَلِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ

الصفحة 21