كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

يَرْجِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَادَفَتْ مَحِلَّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ هَذَا الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ بِالْإِجَازَةِ فَجَازَتْ إجَازَتُهُمْ.
(وَلَنَا) أَنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِكَوْنِ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عِنْد الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْآنَ عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ الْآنَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ اسْتَنَدَ الْحَقُّ الثَّابِتُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ، وَالِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمَاضِي، وَإِجَازَتُهُمْ قَدْ مَضَتْ لَغْوًا ضَائِعًا؛ لِانْعِدَامِ الْحَقِّ حَالَ وُجُودِهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ: أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ غَيْرِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْحَقِّ فِي الْمَرَضِ عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ إبْطَالَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْحَقِّ لِلْحَالِ؛ لِإِبْطَالِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَيَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمَاضِي.

وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ، أَوْ عَبْدٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ لَهُ فَأَجَازَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَيْسَ بِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ؛ إذْ لَا وِلَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ جَوَازُ هِبَةٍ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ فَلَمْ تَكُنْ إجَازَتُهُ إجَازَةَ إسْقَاطِ حَقٍّ بَلْ هُوَ عَقْدُ هِبَةٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ، فَوَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْغَيْرُ فَوَقَعَ هِبَةً مِنْ جِهَتِهِ لَا وَصِيَّةً مِنْ الْمُوصِي كَأَنَّهُ وَهَبَهُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ سَلَّمَ جَازَتْ الْهِبَةُ، وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ إنَّهَا تَجُوزُ.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُنَاكَ وَقَعَ وَصِيَّةً لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْإِجَازَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، وَنُفِّذَتْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصَى بِهِ جُزْءًا مُسَمًّى كَالثُّلُثِ، وَالنِّصْفِ، أَوْ كَانَ جَمِيعَ الْمَالِ، أَوْ كَانَ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا بِأَنْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لَهُ أَوْ ثَوْبٍ لَهُ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخْرِجُ فَلَهُ مِنْهُ قَدْرُ مَا يُخْرِجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَلَهُ ثُلُثُهُ، وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاحِدَةً أَوْ اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا إنَّهُ يُنَفَّذُ الْكُلُّ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ الْكُلِّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ الْكُلِّ يَتَضَارَبُ فِيهِ، وَيُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّقَدُّمِ.

وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَتْ فَالثُّلُثُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ يَسَعُ كُلَّ الْوَصَايَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَسَعَ الْكُلَّ، فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْكُلَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالْكُلِّ، وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهَا فِي الْكُلِّ فَتُنَفَّذُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصَايَا لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالْوَصِيَّةِ بِالْقُرَبِ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْأُضْحِيَّةَ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَإِعْتَاقِ النَّسَمَةِ، وَذَبْحِ الْبَدَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ لِلْعِبَادِ كَالْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَبِكْرٍ، وَخَالِدٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثُّلُث لَا يَسَعُ الْكُلَّ لَكِنْ الْوَرَثَةُ أَجَازَتْ (فَأَمَّا) إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَسَعُ، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ؛ فَالْوَصَايَا لَا تَخْلُو: (إمَّا) إنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ -، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَالْبَعْضُ لِلْعِبَادِ، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ كَانَ الْكُلُّ فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ، أَوْ نَوَافِلَ أَوْ اجْتَمَعَ فِي الْوَصَايَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالتَّطَوُّعَاتِ.
فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ فَرَائِضَ مُتَسَاوِيَةً يَبْدَأُ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بِالذَّاتِ فَيُرَجَّحُ بِالْبِدَايَةِ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ دَلِيلُ اهْتِمَامِهِ بِمَا بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَادَةً، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَنْفَسُ، وَأَعَزُّ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْفَسِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ أَقْوَى فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَدَنِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ الْحَجَّ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -.
وَالزَّكَاةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ، وَغِنَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
وَقَالُوا فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ: إنَّهُمَا

الصفحة 371