كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: أَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا، وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودِ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ.

وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِوَصَايَا إلَى رَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ سَتَبْرَأُ فَأَخِّرْ الْوَصِيَّةَ فَقَالَ: أَخَّرْتُهَا - فَهَذَا لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اُتْرُكْهَا، فَقَالَ: قَدْ تَرَكْتُهَا - فَهَذَا رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّأْخِيرُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَالتَّرْكُ يُنْبِئُ عَنْهُ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَخَّرْتُ الدَّيْنَ كَانَ تَأْجِيلًا لَهُ لَا إبْطَالًا؟ ، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُهُ كَانَ إبْرَاءً؟ .

رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى، وَأَخْبَرَ الْمُوصِي أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا، فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَنَّ لَهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ - لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ خَطَؤُهُ فِي مَالِهِ إنَّمَا غَلِطَ فِي الْحِسَابِ، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَقِفُ عَلَى بَيَانِ مِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ، وَغَلِطَ فِيهِ، وَالْغَلَطُ فِي قَدْرِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.

وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِغَنَمِي كُلِّهَا وَهِيَ مِائَةُ شَاةٍ، فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ - فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ غَنَمِهِ ثُمَّ غَلِطَ فِي الْعَدَدِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِغَنَمِي، وَهِيَ هَذِهِ، وَلَهُ غَنَمٌ غَيْرُهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ هَذَا فِي الْقِيَاسِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ فِي هَذَا، وَأَجْعَلُ لَهُ الْغَنَمَ الَّتِي تُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تَحْصُرُ الْعَيْنَ، وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَالِي، وَهُوَ هَذَا، وَلَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ إنَّهُ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَاكَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي، وَالثُّلُثُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ الشَّائِعِ فَلَغَتْ الْإِشَارَةُ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَهَهُنَا صَحَّتْ، وَصِيَّةُ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ التَّسْمِيَةِ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ.

وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِرَقِيقِي، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا هُمْ خَمْسَةٌ جَعَلْتُ الْخَمْسَةَ كُلَّهُمْ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ لَكِنَّهُ غَلِطَ فِي عَدَدِهِمْ، وَالْغَلَطُ فِي الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْكُلِّ بِالْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ.

وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ وَهُمْ سَبْعَةٌ فَإِذَا بَنُوهُ خَمْسَةٌ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ ثُمَّ وَصَفَ بَنِيهِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ غَلَطًا فَيَلْغُو الْغَلَطُ، وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا إلَّا خَمْسَةً فَقَدْ أَوْصَى لِخَمْسَةٍ مَوْجُودِينَ، وَلِمَعْدُومِينَ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ مَوْجُودٍ، وَمَعْدُومٍ، وَأَوْصَى لَهُمَا يَلْغُو ذِكْرُ الْمَعْدُومِ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَوْجُودِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو، وَخَالِدٍ ابْنَيْ فُلَانٍ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ إنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ اثْنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا.

وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَلَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ أَوْ ابْنَانِ كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُونَ، وَالِاثْنَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقٌ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَهُنَاكَ أُلْحِقَ الِاثْنَتَانِ بِالثَّلَاثِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ لِفُلَانٍ ابْنٌ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْبَنِينَ، وَالْوَاحِدُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَنِينَ لُغَةً، وَلَا لَهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَالْمِيرَاثِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا صُرِفَ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الثُّلُثِ فِي هَذَا الْبَابِ اثْنَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ لَصُرِفَ إلَيْهِمَا كَمَالُ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ، وَحْدَهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ.

وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِابْنَيْ فُلَانٍ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ، فَإِذَا لَيْسَ لَهُ إلَّا عَمْرٌو كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَمْرًا، وَحَمَّادًا بَدَلَيْنِ عَنْ قَوْلِهِ ابْنِي فُلَانٍ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي أَخُوكَ عَمْرٌو، وَالْبَدَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ: هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ يَلْغُو، كَمَا إذَا قُلْتَ: جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ يَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَاعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ، وَأَعْرَضْتَ

الصفحة 381