كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

مِلْكِ الْأَصْلِ، وَقَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي مَلَكَهَا الْوَرَثَةُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ الْمُضَافَةِ إلَيْهَا مَقْصُودًا، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَنَذْكُرُهَا، فَنَقُولُ -، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَنْفَعَةِ ثَبَتَ مُوَقَّتًا لَا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً إلَى مُدَّةٍ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَعُودُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إلَى إنْسَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً تَثْبُتُ إلَى وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَدْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ كَالْمُسْتَأْجِرِ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَذَا الْإِجَارَةُ (وَلَنَا) أَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِالْإِعَارَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِجَارَةَ كَذَا هَذَا أَوْ يَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ.

وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ لَا بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمُوصَى لَهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدِمَهُ هُنَاكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تَقَعُ عَلَى الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُتْعَارَفَة، وَهِيَ الْخِدْمَةُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ حَقَّ الْحِفْظِ، وَالصِّيَانَةِ.
وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ إذَا كَانَتْ الْخِدْمَةُ بِحَضْرَتِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى مَصِيرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهُ؛ لِمَا فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ.
وَمَا وَهَبَ لِلْعَبْدِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ اكْتَسَبَهُ - فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَكَانَ كَسْبُهُ لَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِبَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أَمَةٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا - فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الرَّقَبَةِ، وَالرَّقَبَةُ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ خِدْمَةَ شَخْصَيْنِ.

وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ الْعَبْدُ وَكِسْوَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ إنْ كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّهْنِ إنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلرَّاهِنِ.
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ، كَذَا لَهُ أَنْ يَفْتِكَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ.
وَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِلْحَالِ، وَمَنْفَعَةُ النَّمَاءِ، وَالزِّيَادَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْخِدْمَةَ فَإِذَا بَلَغَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْصُلُ لَهُ.

وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ نَخْلٍ أُبِّرَ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَلَمْ تُدْرِكْ، أَوْ لَمْ تَحْمِلْ - فَالنَّفَقَةُ فِي سَقْيِهَا، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُدْرِكْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ، فَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا.
وَكَانَتْ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِإِصْلَاحِ مِلْكِهِ إلَى أَنْ تُثْمِرَ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ فَقَدْ صَارَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ حَمَلَتْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ حَالَتْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا - فَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا فِي الْعَامِ الَّذِي حَالَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا فِيهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ حَمْلِهَا عَامًا لَا تُعَدُّ مُنْقَطِعَةَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَشْجَارِ مَا لَا يَحْمِلُ كُلَّ عَامٍ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعَ النَّفْعِ بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا، وَنَمَاءً، كَذَا الْأَشْجَارُ وَلَا تُخْرِجُ إلَّا فِي بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ.
وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعَ النَّفْعِ بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا، وَنَمَاءً حَتَّى كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ، فَكَذَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ، وَأَنْفَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَلَيْهَا حَتَّى حَمَلَتْ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي نَفَقَتَهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَمْلِ، وَمَا يَبْقَى مِنْ الْحَمْلِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مُضْطَرًّا لِإِصْلَاحِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَمَلَتْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَّلَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ بِسَبَبِ نَفَقَتِهِ.
وَلَوْ هَلَكَتْ الْغَلَّةُ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ

الصفحة 386